5/31/2016

الأوراق النقدية من منظور فقهي تأصيلي

الأوراق النقدية من منظور فقهي تأصيلي

الأوراق النقدية: قيل في توصيفها وتكييفها الفقهي وفي قياسها على ما ورد في كتب الفقه الكثيرة كلاماً طويلاً، أضعفه أنها سندات دين أو عروض تجارية فخرجت بذلك من الزكاة والربا، بمعنى أنه لا زكاة فيها، ولا يجري فيها أحكام الربا، وهذا قول شديد الخطورة.

وقيل إنها تقاس على الفلوس، بحسب أعراف الفقهاء في كتب الفقه المشهورة، ولكن ما هي الفلوس عندهم؟ هي أثمان الأشياء البسيطة، والتي تقرب إلى القروش والليرات المعدنية في مفهومنا المعاصر، وشتان بينها وبين العملات اليوم. ولقلة أهميتها وقيمتها فقد اختلف الفقهاء كالحنفية على سبيل المثال في زكاة الفلوس فلم يوجبها الإمام فيها، -خلافا للمفتى به بأن الزكاة تجب في قيمتها-، وكأنها من العروض التجارية، كذا اختلفوا في جريان الربا فيها، فأخرجها الشيخان أبو حنيفة وأبو يوسف وكذلك الشافعية والحنابلة من الربا.. 
فهل العملات اليوم تشبه ما قيل في الفلوس؟ ذهب الشيخ مصطفى الزرقا إلى أن العملات العصرية فلوس ولكن يثبت لها أحكام الأثمان، وبذلك أخرجها من الفلوس ذوات الأحكام المعروفة في الفقه، وأكسبها صفات الأثمان دون اسمها.

ولعل الإشكال فيما سبق هو في عقلية التخريج بتأطير المشكلات الجديدة في نماذج وأعراف المجتمعات التي دون فيها الفقه، فليست كل النوازل ممكنة التنزيل على ما سبق من أقوال، كما هنا، فالأولى إذن أن نعود إلى فلسفة الثمنية في الفكر الاقتصادي الإنساني. 

إن الإنسان عرف التبادل والمعاوضة أول الأمر، بين طرفي العقد قمح بتمر، ثم دله حب التيسير إلى إدخال العامل الثالث بين الطرفين، فصاحب القمح يحتاج إلى غير التمر، وهم قد لا يحتاجون القمح، فأدخلت البشريةُ العرَض الوَسيط بين الطرفين، وهو عرَض مطلوب للجميع، واصطلحوا على أن يكون من الذهب والفضة، فأصله عرض ولكن كثرة دورانه واحتياج الناس جميعا لقيمته جعل منه ثمناً في أعراف الإنسانية معظمها، وهذا ما يفسر أن هناك حضارات قامت على أثمان ليست الذهب والفضة بل اعتبروا أشياء أخرى، وهذا يؤكد أن الذهب والفضة ليسا ثمنا بأصل الخلقة بل بالاعتبار.

وعلى هذه المقدمة نبني هذا القول: إن العملات قد تشترك مع العروض في أوصاف معينة، ولكنها بدورانها واعتراف الدنيا بقيمتها، انتقلت إلى مرتبة الثمنية كما جرى في الذهب والفضة، بل إن الثمنية المطلقة للذهب والفضة قد انحطت عن الفضة بشكل واضح لا يحتاج إلى إثبات، وأيضا انحطت الثمنية عن الذهب الذي يمكن أن يوصف اليوم بأنه أحد الأثمان المعتبرة في الدنيا وليس الثمن المطلق الوحيد في الدنيا، -وهو ما أسماه الفقهاء بالعلة القاصرة في غير الذهب والفضة، فالواقع أن الذهب أصبح علة قاصرة، والمقصود هو النسبية-، والتي يبدو أنها لحقت الذهب والفضة في نواح معينة، بدليل نزول ثمنه هو وارتفاعه في البورصة وفي سعر الأونصة، ولا يقال إنه ثابت والعملات الأخرى هي التي تتغير، فهو قول أبطله علماء الاقتصاد، ويكفي في الجواب عليه أن نقول ممكن اعتبار هذا في إحدى العملات أيضاً، فنقول إن الدولار هو الثابت والأثمان الأخرى تتغير، وهذا لا يصح.

فالنتيجة إن الأوراق النقدية لا يهمنا ما أصلها سواء أكانت عروضا أم فلوساً، فهي اليوم أخذت جميع الصفات التي اجتمعت في الذهب والفضة فجعتهما ثمنا، وهي اليوم أثمان كالأثمان الأخرى الأصيلة، ويشهد لهذا أن الفلوس يوم ارتفعت قيمتها في إحدى فترات المماليك، ونافست الدراهم والدنانير، أفتى العلماء آنذلك بأن لها أحكام الدراهم والدنانير مطلقا، وهذا هو الاجتهاد الذي نبحث عنه. والحمد لله أن هذا هو القول المفتى به والراجح عند علماء السنة والشيعة، وهو الذي أفتى به مجمع الفقه الإسلامي بدورته الخامسة 1402هـ.
والله الموفق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق