7/25/2017

الإمام الشاطبي وتحرير مذهبه في السنة النبوية المستقلة دراسة تأصيلية تحليلية

الإمَامُ الشَّاطِبِيُّ 
وتَحريرُ مذهبِه في السُّنَّة النَّبويَّة الـمُستَقِلَّة 
دِراسَةٌ تأصيليَّة تحَليليَّة

(مرفق بأسفل المقال رابط تحميل البحث)
مقدمة البحث: 
ادعى الشاطبي أن السنة لا يجوز لها أن تخرج عن القرآن الكريم نظراً، وأنها لم تخرج عن القرآن الكريم عملاً، واستدل بأدلة عقلية ونقلية عديدة، ثم توقف عند الجانب التطبيقي لقوله، وأورد فيه أمثلة من السنن المستقلة، ثم راح يعيدها إلى القرآن الكريم، عبر أدوات اجتهد في تحديدها وتوضيحها وبيان كيفية الاستفادة منها. إلا أن قوله هذا قد فسِّر بأكثر من تفسير، تفاوتت في جذبه إلى طرف رد السنن غير المتواترة بإطلاق، أو رد السنن المستقلة كلها، وقال بهذا بعض العلمانيين والقرآنيين من الدراسين، وهناك من قال بأن خلافه مع جمهور العلماء لفظي فحسب، وأن مرد قوله إلى قبول السنن جميعها، وهو قول محقق الموافقات رحمه الله. 

فيهدف البحث إلى تحرير قول الشاطبي هذا وتحليله ونقده، لمعرفة صحة أدلته النظرية، ولمعرفة صحة أدواته التطبيقية التي استخدمها في تأكيد قوله، وذلك إنطلاقا من كلامه هو ومنهجه في عرض المسألة بعيدا عن التفسيرات التي أسقطت على قوله أفكارها وخلفياتها المعرفية الخاصة. وقد اختار الباحث في مقاربته المسألة، فصلها عن سياق كتاب الموافقات الذي عرف بالمقاصد بأكثر من أقواله الأخرى، وتحليلها تحليلا داخليا ينطلق من النص نفسه لا من موافق الشاطبي الأخرى أو من السياقات التاريخية الاجتماعية الفكرية التي رافقت إصداره مثل هذا الرأي، وليس هذا الاختيار باختيار مفاضلة بأكثر من اختيار منهجي لكي تتناسب الدراسة مع حجم البحوث المحكمة عادة، وإلا فإن الدراسة الشاملة للنص وما ورائياته تستحق دراسة في كتاب مستقل. 

والذي خلص إليه البحث، أن الأدلة النظرية العقلية والنقلية التي أوردها الشاطبي لا تسلم له، ولا تكفي للدلالة على دعواه، إلا أن الأدوات التي استخدمها في رد السنن المستقلة إلى القرآن الكريم كانت دقيقة وصالحة. كما بين البحث بأن منطلق الشاطبي في تمييز منزلة السنة عن مرتبة القرآن، والتأكيد على عودة السنن كلها إلى القرآن الكريم، منطلق أصولي يتناسب ومنهج الحنفية في تناول المصادر التشريعية، بخلاف منهج المتكلمين والشافعية الذين عدوا القرآن والسنة في منزلة واحدة عندما ذكروا بأن الوحي له صورتان: متلو وغير متلو. فالشاطبي في هذه المسألة -وفي مسائل أخرى- يعد الامتداد الفكري/الأصولي للمدرسة الحنفية التي تراجع التأصيل لها وتطويرها بعد القرن الخامس الهجري. 

6/09/2017

تأملات في كتاب التحريش لمؤلفه ضرار بن عمرو الغطفاني

كتاب التحريش لضرار بن عمرو الغطفاني، حققه في تركيا الدكتور حسين خانصو ومحمد كسكين، الكتاب أخذ شهرة وأهمية فائقة السنة الماضية بين الباحثين من العرب والترك والغربيين، لأن مؤلفه ينسب إلى المعتزلة وهو من متقدميهم ثم انشق عنهم مؤسسا فرقة مستقلة -وفاته كانت في عام 200هـ تقريبا-، ومضمون الكتاب ثري جدا بآراء الفرق الإسلامية وأهم مقولاتها وأهم أدلتها النقلية.

1-حجم الكتاب لايزيد على 120 صحيفة، تقرأ في جلسة واحدة، وتحقيق الكتاب عموما جيد، سار فيه محققه على منهج إخراج النص كما هو في المخطوط فقط -بدون مقدمة أكاديمية أو تعليقات علمية-، مع بعض الهنات البسيطة، ولكنه منتقد من جهة الخدمة بالتخريج، فنسبة ثلث مروياته لم تُخَرَّج أو لم يقف عليها المحقق، رغم أن الكتاب بمجمله إنما هو مرويات يأتي بها المؤلف في سياق الحجاج الكلامي بين الفرق. 

2-مضمون الكتاب ثري ولافت وذكي، وفيه طرافة وجدة أيضاً، ولعله يوصف من أقدم فنون الرواية أو القصة الموجهة، فهو في الواقع قصة فقيه وهمي، يتخيله الكاتب وقد زاره بعض أتباع الفرق الكلامية، ويسألونه عن معتقدهم، كالمرجئة والرافضة والناصبة والمعتزلة والخوراج والحشوية ومكفرو الصحابة والمكفرون بالكبيرة وكثيرون، يأتون الفقيه فيبرهن لهم على صحة معتقدهم، ثم يتبع المؤلف الجواب بمجيء من يؤمن بعكس ما يؤمنون به، فيأتي الفقيه بالحجج والبراهين التي تؤيدهم، فيؤيد الخوارج في خروجهم على علي والسلاطين، ثم يبدعهم ويحرم الخروج ويوجب الصبر، كل هذا بأسلوب يجمع بين الجزالة والسهولة.

3- طبعا في اختيار المؤلف لشخصية الفقيه عديمة الموقف مرام وأهداف تحتاج للتأمل، فهذا الفقيه متناقض مداهن مجامل في شؤون الدين والعقيدة، وهو يوجب الأمر ونقيضه، ويحرم الفعل وتركه وهكذا. والمؤلف وصفه بالفقيه ولماذا ليس بالمحدث أو المتكلم رغم أنهما الأقرب لمضامين الكتاب بحسب مصطلحاتنا؟ ففي ذلك إشارات علمية اجتماعية متصلة بتاريخ الأفكار ووظائف الفقيه آنذاك.

4-المؤلف كما ذكر عنه، وكما يبدو في الكتاب شخصية شديدة الذكاء، استطاع أن يبرهن على صحة وبطلان جميع المذاهب في عصره. وهذا وحده كان مهما للباحثين في أنهم عرفوا أنه في القرن الثاني كانت جميع المذاهب قد عُرفت واستقرت وتميزت بأفكارها وأدلتها. 

5- البحث عن معتقد المؤلف أو الفقيه المتخيَّل في الكتاب: 
عند قراءتي الأولى للكتاب بحثت عن معتقده، ترى هل نصر رأيا معينا على ما سواه في كتابه، أو هل قدم مذهبا على غيره؟ ولكن فيما يبدو فإن معول الهدم في الكتاب كان أقوى من البناء، وتركيز ضرار على تفنيد آراء جميع الفِرق حال بين أن يؤسس لرأي معين، بما يجعل القارئ يميل إلى أن ضرار لا يرى الانتساب لإحدى هذه الفِرق، ويرى النجاة في الأخذ بما صح من صريح المنقول والمعقول.
وعلى أي حال فإن فكرة هدم آراء الفرق جميعها هو مقصود الكتاب الأولي، ولكنني استمررت في البحث في زوايا الكتاب وخباياه عما ندَّ عن ذلك المقصود. فتراءى لي أمران في هذا السياق، أولهما آتٍ من تركه الرد على بعض المسائل وتمريره لها على ما تصرح به الفِرقة القائلة به، وثانيهما آتٍ من تعبيراته الدينية التي ترافق أقولا بعينها فتبين رأيه منها كمؤلف على العموم.
ومثال الأول: أنه ترك الرد في بعض المسائل، كشتم الخليفتين، فحكم بإبطالها وتبديعها وأثبت فضلهما، ولم يأت بشخص متخيل يسأل الفقيه الدفاعَ عن جواز شتمهما.
ومثال الثاني: أنه صرَّح بموقفه في عدة مسائل الكفر أو البدعة فيها ظاهرة وبواح، فعقب على قول الفقيه فيها: "والعياذ بالله، أعاذنا الله.. وأمثالها من العبارات التي تشي بموقفه العقدي. 
وهذا يشي بأنه كان أقرب -في مذهبه الجديد- لمن كان يعد نفسه فوق الطوائف والمذاهب معاديا للمعتزلة والخوارج على سبيل التحديد، ولعله كان يرى تعدد الحق في فروع الكلام ما دام متأولا دليلا ما.

6- تميز أسلوب المؤلف في إيراد أدلة الجميع من دون ترجيح، بأنه كان يكتب على منهج تأريخ الأفكار لا يتمثلها أو يدافع عن أحدهما، وهذا ليس معهودا في تراثنا العلمي. ويؤيد هذا الأمر بحق ضرار أنه ينسب إلى الاعتزال في فترة معينة من حياته ثم خروجه عنهم، وكذلك في نسبته إلى الخوارج، ولكن المعتزلة لا يقرون باعتزاله ولا يوردونه في طبقاتهم، ولا الخوارج يفعلون ذلك بل هو شخصية مستقلة.

7- اتهمَ المؤلفَ بعضُ من كتب في تحليل الكتاب أنه كان يهدف إلى لنيل من السنة، وبيان أن الأدلة التي ساقها من الأحاديث وقد تضاربت معانيها وتناقضت، بما يدل على وضعها بالجملة إلا ما قطع بصحته. وعليه فإنه يمكن قراءة الكتاب من منظور المعتزلي الذي رد عليه ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث. ولا يستعبد هذا عن الكتاب وعن منهج المؤلف، لكن لا على سبيل إنكار السنة بمجموعها من حيث الحجية، وإنما على سبيل إنكار أحاديث بأعيانها -مهما كثُرَت- من حيث الثبوت.

8-أختم بمسألة يذكرها المختصون بالحديث وهي أن عملية نخل الأحاديث وتعليلها وتضعيفها واستبعاد الموضوع منها، قد انتهت في غاية الأمر إلى إسقاط هذه الأحاديث من المدونة الحديثية السنية الكبرى بين يدينا، وأنها حذفت منها وضاعت، ولم يتبق من الأحاديث الموضوعة إلا نماذج فحسب للتمثيل ولبيان عمل المحدثين في الإعلال، وهذا صحيح لأن المحدثين المتقدمين لم يتجهوا إلى جمع الأحاديث الموضوعة وحصرها، وإنما اتجهوا إلى جمع أسماء الرواة الوضاعين، فحصروها وضبطوها في كتبهم ومثلوا على ما وضعوه من أحاديث بنماذج من ذلك، ولم يدع المحدثون أنهم حصر تلك الأحاديث الموضوعة في كتب أسماء الوضاعين.
يؤيد هذا النظر وهذا الرأي، أن كتابنا الذي اندرس لقرون ثم ظهرت نسخته مؤخرا، قد حوى من المرويات شيئا كثيرا مما ظاهره الوضع، ولم نقف عليه في مدونات السنة التي وصلتنا جميعها أي مدونة الحديث الصحيح والضعيف والموضوع، بما يرجح أن عددا ما -لابد من دراسة حجمه أكبير أم قليل- من الأحاديث الموضوعة سقط بالزمان.

أخيرا، فهذه كلمات لا تعدو كونها تأملات في كتاب التحريش لمؤلفه ضرار بن عمرو الغطفاني، وليست بدراسة أكاديمية وافية له، وأدعو الباحثين إلى مزيد تعمق وتأمل في هذا الكتاب لأنه -على صغره- بحر من الآراء والأخبار والمقولات الكلامية الحديثية.