2/27/2013

لغة الدردشة ظاهرة تستحق التوعية

لغة الدردشة

ظاهرة تستحق التوعية

محمد أنس سرميني


يُقصَد بلغة الدردشة - وسمِّيت لغةً تجوُّزًا -: اللغة التي انتشرت انتشار النار في الهشيم بين الشبان العرب، والتي صارت لغتهم التي يَستخدِمونها في برامج التواصل الاجتماعي والدردشة في الشابكة، وهي ظاهرة حديثة، تعدُّ امتدادًا لدعوة كتابة العربية بالعامية المختلطة بالأجنبية وبالأحرف اللاتينية، ومن أسمائها "لغة الإنترنت" أو "لغة الشات" أو "الفرانكو أراب"، وهي لغة هجينَة مُكوَّنة مِن كلمات عربية عامية، وأخرى إنكليزية، مكتوبة بأحرف إنكليزية وأرقامٍ تعبر عن أصوات عربية لا وجود لها في الإنكليزية.

عرَّفتها موسوعة "ويكيبيديا" بأنها أبجدية مُستحدَثة غير رسمية، ظهرت منذ بضع سنوات، أصبحت تُستخدم على نطاق واسع بين الشبان في الكتابة عبر برامج الدردشة على الإنترنت في المنطقة العربية، وتُنطق هذه اللغة مثل العربية تمامًا، إلا أن الأحرف المستخدمة في الكتابة هي الأحرف والأرقام اللاتينية بطريقة تُشبه الشَّفرة.

والرموز المقصودة من الأرقام هي الأحرف الآتية: (2:أ)، (3:ع)، (5:خ)، (6:ط)، (7:ح)، (8:غ)[1].

وتشير الإحصائيات إلى أن هذه اللغة قد أفرزت إلى الآن مئات المدونات الشخصية والنصوص الأدبية والنثرية المكتوبة بها[2]، ويُسوِّغ الشبان اعتمادَهم على هذه اللغة بأنها أصبحت شائعةً ومستعملةً في صفحات الشابكة ومفهومةً من القراء، وأن كثيرًا من أنظمة تشغيل الحواسب ومتصفَّحات الشبكة لا تدعم استعمال اللغة العربية؛ لأسباب تقنيَّة أو جغرافية، وهذا يعود بمسؤولية التعريب إلى الشركات التقنية العربية ومهندسي الحواسيب والمعلوماتية.

وحقيقة الأمر أن المشكلة مرتبطة بأمرَين أكثر عمقًا، هما كون اللغة الإنكليزية اليوم هي اللغة الأولى في مواقع الشبكة العنكبوتية وبرامج الحاسب، وأنها لغة العلم والثقافة، فهذا قضى بأن يكون استعمال الشبان الحرف اللاتيني أكثر مِن استعمالهم الحرف العربي، وهي مرتبطة أيضًا بأزمة الهُوية العربية والإسلامية عند الشبان، وبحجَّة التقارب بين الحضارات الغربية والشرقية والعربية، لاسيما أن أول ظهورها في البلاد العربية كان بين طلاب المدارس الأجنبية الذين لا يُتقنون الإنكليزية ولا العربية، فوجدوا فيها بديلاً عن الإنكليزية التي لم يتمكَّنوا من إتقان قواعدها وأساليبها، فاستكانوا إلى أَحرُفِها فحسب، والمؤسف أن هذه اللغة الهجينة هي أسهل عند بعض الطلاب العرب مِن العربية؛ إذ وجدتُ - مِن خلال تجربتي مع الطلاب - مَن يكتب دروسه وملاحظاته، ويقدِّم امتحاناته بهذه اللغة، وكلُّه على حساب لغتهم الأصلية، وهي اللغة العربية.

ولا تعدو هذه اللغة كونها "تقليعةً شبابيةً"، استغلَّتْها بعض وسائل الإعلام الداعمة للعاميات والتغريب، ووظَّفت لها أهدافًا تجاريةً أيضًا؛ من خلال إعادة نشر أعمال أدبية عربية بهذه اللغة دون احترام لحُقوق كاتبيها، ولن تستمر هذه اللغة؛ لأنها ولدت تَحمل معها بذور انكماشها؛ فقد انتشرت بلا قواعد تَضبِطها، وارتبطت إلى حدٍّ كبير بالطبَقة المُترَفة في المجتمعات العربية، خلافًا للطبقات الأخرى التي تمثِّل أغلبية المجتمع العربي، وقد قامت حملات توعية في الشابكة ضدَّ هذه المُسَخ؛ منها: "اكتب عربي"، "كفاية فرانكو.. اكتب عربي"، "استرجل واكتب عربي"، فالرجولة في هذا السياق تعني: التمسُّك بالهوية[3].

ولم تنل هذه الظاهرة حقَّها من الدراسة إلا في بعض المقالات العامة، ولم تُفرَد لعلاجها بحوثٌ علمية جادة، وزاد الأمر سوءًا أن انتقلت هذه الظاهرة إلى الإعلام المرئي، فصارت بعض البرامج الترفيهيَّة والدينية ذات الجمهور الشبابي تخطُّ عناوينها وأسماء القائمين عليها بهذه الأحرف[4]، وهذا مؤشر سيئ جدًّا؛ لأنه يرسخ هذه الظاهرة بين الشبان، ويَنقلها من الإعلام الإلكتروني إلى الإعلام المرئي ذي الجمهور الأوسع، ولأنه يَشي بعدم تنبُّه الإعلاميِّين إلى خطورة انتشار هذه الظاهرة وشيوعها بين الشبان، وما تَحمله مِن معاوِل لهدم العربية وأَحرُفها وفصاحتها.

ويحزُّ في النفس أن تطَّلع على مدوَّنات الشبان وصفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فتراها مكتوبة بأحرف لاتينية، وأرجو أن يتنبَّه الإعلاميُّون واللُّغويُّون إلى هذه الظاهرة، ويُسارعوا في وأدِها في مهدها، قبل أن تستفحل وتتعمَّق أكثر مما هي عليه الآن، وأتوجه إلى مُدرِّسي اللغة العربية وغيرها من المواد في المدارس الإعدادية والثانوية، أن يَنشروا الوعي اللغوي، ويُنبِّهوا طلابهم إلى آثار هذه الظاهرة السلبية؛ فمسؤولية رجال اللغة والإعلام لم تَختلِف عما كانت عليه سابقًا، وإنما تجدَّدت أشكالها؛ فالحرب على الفصحى لم يتغيَّر جَوهرُها وأهدافها؛ وإنما الذي تغيَّر هو أسلوبها ووسائلها.


[1] انظر: ويكيبيديا، عربي، مصطلح: عربيزي.
[2] انظر: مقال إبراهيم فرغلي، مجلة العربي الكويتية، مقال: هل تمحو 3raby لغة الضاد؟ انظر: عدد نوفمبر:2010م، ومقال: نهى قاطرجي، لغة الشات.
[3] عدد المشتركين في هذه الصفحات في موقع (فيسبوك: Facebook) الاجتماعي، (اكتب عربي: 242)، (استرجل واكتب عربي: 1383)، (كفاية فرانكو.. اكتب عربي: 1536)، وهو عدد متوسِّط ليس بالقليل ولا بالكثير.
[4] مِن أهمِّها برنامج الدكتور عمرو خالد المُسمَّى "بكرة أحلى"، الذي يُعرَض على القناة المصرية الرسمية؛ فإنَّهم أضافوا أسفل الاسم العربي للبرنامج، اسمَه بأحرُف لغة الدردشة، فكتبوا: "bokra a7la"!!


Twitter: @anassarmini

2/26/2013

الفن والحياة.. جدلية تجدد مع رحيل "ياسينو"


الفن والحياة.. جدلية تجدد مع رحيل "ياسينو"

محمد أنَس سَرميني


ثمَّة رؤيتان تحكمان علاقة الفن بواقعه، وعلاقة الفنان بمحيطه، وهما بشكل مباشر: الفن مرآة الواقع يعكس آماله وآلامه وأمراضه وصحته، وينقل صورة صادقة صحيحة عنه، ليعيد إلى الأذهان والأسماع أصواتاً قد همّشها المجتمع أو غفل عنها، وأما الرؤية الثانية، فهي لا تكتفي بأن يكون الفن مجرد ناقل صادق، بل أن يضيف على ذلك النقل الوعي والرؤية الناضجة والتي تسهم في تشكل رأي عام مشترك لدى جماهيره، توظف في خدمة أهداف المجتمع وغاياته.

السوريون والعرب عرفوا ياسينو بأمرين تميّز بهم عن سائر جوقته الفنية التي ذاع صيتها في العقود الأخيرة من القرن الماضي، تميّز بأنه كان الوحيد الذي عرف في أدواره باسمه الحقيقي الذي ولد فيه، وهو ياسين بقوش، والثاني أنه حصر أدواره بذلك الشخص الطيب الضعيف، الذي يقع تحت براثن أبو عنتر مفتول العضلات الذي يمثل القوة، وغوار الماكر الذي يمثل الذكاء، وهما الصفتان التي افتقدهما ياسينو، ليعبّر عن فئة معيّنة من المجتمع الشامي القديم. فأكسبه هذا شفافية وصدق في التجسيد والتمثيل، لابد أن انعكست على حياته الذاتية، ليبقى ذلك الشخص الصادق والراضي بالصف الثانوي.

التقيته مرة في دمشق فترة الدراسة، في أغرب مكان قد تلتقي فيه بفنان محبوب، التقيته في "أوتوبيس: عسالي-ابن النفيس"، وقد تزاحم الناس على باب الأوتوبيس، ولكنهم أفسحوا له مجالاً للصعود، احتراماً لسنه ولما كان يحمله من احتياجات منزلية شخصية، لم يدرك الرُّكاب شخصية من صعد إليهم، إلا من خلال نبرة صوته المميزة وهو يناول أحدهم أجرة الركوب، التفتوا جمعياً إليه، وتسابقوا في من سيدفع المبلغ، إلا أن السائق التفت وسلّم وأهَّل ورحّب، ورفض أن يستلم فلسفاً واحداً، واستمر الجدل إلى أن حسمه ياسينو بأيمانه مغلظة على السائق أن يقبل المبلغ، وإلا نزل من الأوتوبيس، فأخذه واستكان. ارتسمت على فمي ابتسامة خفيفة، وأنا أتصور الموقف وكأني في "صح النوم"، وتوجّست خيفة من "مقلب" أو "علقة" ساخنة تنتظر جميع الركاب من غوار أو أبو عنتر.

هكذا كانت حياته وعمله وبساطته، وكذلك كانت نهايته، تعاطف معها الكثيرون من السوريين البسطاء الذين ضاعت دماؤهم هدراً كدمه، ولكن ما هي الرسالة التي حملتها وفاته، وما هي الأبعاد التي تحملها؟، إنها بالعود على ما بدأنا به وهي علاقة الفن بالحياة، ومدى التشابك ما بين طرفي المعادلة هذه، فالفنان الشعبي إنما يبني قاعدته الجماهيرية وشهرته بين الأوساط، على أساسٍ من موهبته وقدرته على الإبهار أو الإضحاك أو التعبير عن دواخل الناس وضمائرهم، وأما عن رسالته التي يقدمها في فنه، فلعلَّه يسهم في صياغتها الكثيرون، بدءا من الكاتب إلى السيناريست إلى المخرج فالمنتج، وانتهاء بالحراك الثقافي والوعي الجماهيري والثقافة الشعبية، ومن الظلم تحميل هؤلاء الأشخاص ما لم يدّعوه لأنفسهم من تعميق الوعي بين الشبان أو ترسيخ القيم أو تعديلها وغير ذلك، وإن كان لهم أثر في ذلك، ولكنه اختصاص القادة والمثقفين ورجال الفكر والسياسة والاقتصاد.

وفي معظم البلدان التي لم تتح فيها حرية التعبير ولم تحترم فيها استقلالية الفنون بشكلها التام، يكون فيها الفن ليس أكثر من أداة ترويجية لمواقف سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، تقع في منظومة تبتلعه وأشباهه. ولهذا فإن المسؤولية أكبر من أن يتحملها الفنان وحده، خصوصاً أنه لم يدع ذلك لنفسه إطلاقاً، ولهذا على جمهور هذا الفنان أو ذاك أن يقدروا أن مواقفه في غير مجال عمله واختصاصه، هي كمواقف سائر المواطنين التي تحتمل الخطأ والصواب، ويطرأ عليها الإذعان للترهيب أو الترغيب، وأن فيهم العصامي والوصولي وغير ذلك. ولهذا فإن معيار تقييم الفنان حقيقة هو موهبته بالدرجة الأولى، ثم تخيُّره للرسائل الفنية التي يريد إيصالها للناس ثانياً، ثم يأتي أخيراً مواقفه الشخصية والتي يتضاءل أثرها الشعبي خصوصاً في مجتمعات قد قررت اليقظة بعد عهود السبات.

Twitter: @anassarmini

2/13/2013

صنمية الأفكار: على هامش خلع رأس المعري


صنمية الأفكار: على هامش خلع رأس المعري 

محمد أنس سرميني

اصطدم رأس تمثال المعري على أرض المعرة محدثاً صدمةً جديدةً في بلاد تكاثرت فيها الهموم والآلام، ومسبباً انقساماً وأخذاً ورداً بين صفوف السوريين على ما هم عليه من واقع صعب، فاختلفت الآراء والتحليلات والتشخيص فيمن قام بكسره، ومن هي الجهة المعنية بذلك، وما الدوافع وراءها، وتعددت الاتهامات، وقابلها تبرئة طرف أمام طرف، وإلى ما سوى ذلك مما هو معتاد ومتوقع في مثل هذه الظروف القاسية، إلى أن قال أحدهم: إن المعري لا يختزل في تمثال مادي أو مجسم صخري، فهو باقٍ في فكره وفلسفته، وفي شعره وحكمته، وفي لزومياته وغفرانه، في إلحاده وإيمانه، وليس بالحجارة والتماثيل والنحت والتصوير. ولقد أصاب في هذا فالأيام تُخَلِّد الأفكار، ولكن القول فتح الآفاق إلى موضوع متصل، ألا وهو اهتمام جميع الأمم والحضارات بتخليد عظمائها وشخصياتها التاريخية المعتبرة على أنها عنصر مهم جداً في صناعة الهوية الحضارية والثقافية للأمم، وتعميق شعور أبنائها بالانتماء إليها وإلى تاريخها. 

وتمايز الأمم في أشكال ذلك التخليد، بين عدة دوائر، منها دائرة الاحترام البالغ الذي يعلي من شأن تلك الشخصيات مع إبقائها تحت مجهر النقد والبحث العلمي، وتقابلها دائرة القداسة التي تجعل من الشخصيات التاريخية فوق الدراسة والنقد والمحاسبة العلمية، ومنها دائرة تخليد الأفكار بجعلها ثقافة شعبوية وتعميمها بين الأجيال الناشئة، وتقابلها دائرة التخليد المادي لها بنصب التماثيل والصور في الميادين والساحات والجامعات وغيرها.

ولم يخل مجتمع من المجتمعات البشرية من حضور هذه الدوائر، ولكن بصور متفاوتة، فعلى سبيل المثال إن التصاوير والمجسَّمات قد وجدت في المجتمعات الإغريقية والرومانية والهندية والصينية، وكذلك في المجتمع العربي قبل الإسلام، ويقال إن عمرو بن لحي هو من استقدمها من الروم في الشام، فكانت النتيجة أن بُني حول الكعبة المشرفة ثلاثمئة صنماً وتمثالاً لرجال صالحين أردوا تخليد ذكراهم وتعميق الانتماء إليهم في أقدس بقعة عند العرب، ثم أثر الجهل والأيام في تحول هذا الاحترام إلى دائرة التقديس، ومن ثم العبادة والإشراك. وكان أثر الإسلام واضحاً في تحويل المجتمع العربي والثقافة العربية المسلمة عن التقديس المادي إلى دائرة الاحترام الفكري والمعنوي والعلمي، وبذلك حفظ الحضارة العربية الإسلامية من هذه المطبّات، وأبقى التعامل مع الأفكار والرؤى والمواقف، على قاعدة الاحترام: "كلٌ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر محمد عليه الصلاة والسلام". 

ولكن يبدو أن المجتمعات تميل عموماً إلى رفع عظمائها إلى ما فوق المستوى البشري الطبيعي، فكان أن تحوَّل هذا الجو المشحون بالحرية الفكرية والتثاقف والتحاور والاحترام إلى نوع من تقديس القائل وتقديس المقولة، والتسليم المطلق بصحتها، لا لصحتها الموضوعية، وإنما لذاتيَّة من أطلقها، وترتيبه في العصور التاريخية، وبذلك دخلت الحضارة العربية الإسلامية في طور تقديس الأفكار، فكان من آثار هذه النقلة أن عاشت أجيال متتابعة على فُتات موائد من سبقهم، وعلى هامش أفكارهم وتصوُّراتهم للكون والحياة، وغاب الاجتهاد والتجديد والإبداع. ومن يفتح كتاب رضا كحالة "معجم المؤلفين" لعلَّه يفاجأ بأن بعض الكتب في العصور الإسلامية الأولى، كانت مداراً لعشرات بل مئات الشروح والاختصارات والحواشي، بما أكسب متونها القداسة التي نتحدث عنها، وبما أثقلها وأخرجها عن سياقها، بل وأخرجها عن غايات ومراد مؤلفيها، وإن نظرة سريعة في رفوف معارض الكتب العربية اليوم، تظهر أن كتب الأوائل هي المتداولة والمطلوبة وهي الأكثر مبيعاً والأكثر طباعة مما سواها من إنتاج علماء ومفكري عصرنا، وهذا يعني بوضوح أننا وإن تخلصنا من عبء القداسة المادية للأشخاص، ولكننا وقعنا أسرى قداسة أفكارهم وآرائهم وآثارهم، وهو خلل لعلَّه يزيد سوءاً عن خلل الأول.

أما في الحالة الغربية فإنهم سلكوا في تمجيد عظماءهم وشخصياتهم التاريخية أسلوباً آخر، واختاروا دائرة التقديس المادِّي الذي يتمثل بالفنون والنحت والتماثيل، وجعلوه فناً قائماً برأسه من المجسمات الصخرية والشمعية، والرسومات على اللوحات والجدران والأسقفة، مما أبقى تلك القامات حاضرةً في عيون ناشئتهم، ورسم لهم القدوات وربطها في مخيلاتهم وتصوراتهم، بما دعم ذلك الشعور بالانتماء الوطني والحضاري. أمَّا من الناحية الفكرية والمعنوية، فبقيت في دائرة الاحترام الخاضعة للبحث والنقد بل والنقض العلمي، دون أن يغُضَّ ذلك من مكانة أحد، وبما حفظ مبدأ تراكمية العلوم وهرميتها، وترك باب البحث والعلم مفتوحاً متاحاً للجميع، ولم يجعلوا من أفكار سلفهم وفلسفاتهم ثقافةً شعبيةً منتشرة بين العامة، بل احتفظوا بها في متاحف التاريخ وفي مراكز الأبحاث المختصة فقط. وهذا ما جعل الحالة العامة والثقافة الرائجة هي ثقافة العصر والمعاصرين، فإنك لن تجد في الغرب مجموعات من الشباب تمضي الأوقات الطويلة في الاجتماع لقراءة كتب تاريخية، قد كُتبت بلغة وبأسلوب لا يمت إلى واقعهم، وتعالج مشكلات لا تتصل بمشكلاتهم، ولا أثر لها في إلا استقدام نزاعات وعصبيات وانقسامات قد دفنت أسبابها، وتناثر غبار معاركها، فما الفائدة من تجميعه واستحضاره، إلا إحياء تلك الجروح!

غاية ما يقال بعد أن كُسر تمثال المعرِّي وحصل ما حصل: إنَّ ما تحتاجه بلادنا العربية الناهضة هو احترام أفكار من سبقهم، وإنزالها منزلتها اللائقة بتجنُّب تقديسها وعزو العصمة لها، وأمَّا التقديس المادي فليس من سماتنا ولا يؤثر في حضارتنا، ولعل الحادثة تكون صحوة فكرٍ تحطم أوثاناً قائمةً في الفكر والوجدان أعمق بكثير من تلك التصاوير المجسمة، ومن الإنصاف القول إن الغرب تفوَّقوا في هذا بأن أخضعوا تاريخهم ورجالاتهم جميعاً للنقد والدرس العلمي، وتخلصوا من عبء القداسة المعنوية لأفكار أسلافهم، رغم انتشار تماثيلهم وصورهم عندهم، وأما الدائرة المثالية فهي التي ابتدأنا بها القول، وهي دائرة الاحترام والاستفادة التي تحمي حرية الفكر والتفكر، وتحفظ قدر ومنزلة أسلافنا دون تقديس مُخل أو تصغير مُسف.
حلب
Twitter: @anassarmini

المقال منشور في إيلاف:
http://www.elaph.com/Web/opinion/2013/2/792873.html?entry=opinion

2/10/2013

وقفات في البحث الموضوعي في السنة النبوية

وقفات في البحث الموضوعي في السنة النبوية:

محمد أنس سرميني


إنَّ انتقال البشرية من عصر انتشار المعرفة وتداولها وذيوعها، إلى عصر تصنيف المعلومات وتبويبها وتنظيمها، لا بدَّ أن يكون له أثر في العلوم الإسلامية، وعلوم السنة النبوية بوجه خاص، فلقد درجت البحوث سابقاً على دراسة الحديث الشريف من زاوية تحليلية تتناول الحديث الشريف الفرد بالبحث المعمّق على أنه وحدة مستقلة، فتجمع طرقه وشواهده ومتابعاته، وتكون النتيجة الحكم عليه بالصِّحة أو الضعف، والعمل أو الترك. فظهَرت حديثاً الدراسات الموضوعية في الحديث الشريف، والتي تتناول موضوعاً معيناً من السنة النبوية بالجمع والتأصيل. وقد ينازع في اعتبار الحديث الموضوعي فناً حديثاً من فنون التصنيف، من يرى جذوراً وأصولاً تاريخيةً له في كتب المتقدمين كالجوامع والمصنفات والسنن، وفي كتب الأجزاء الحديثية كالأدب المفرد، والقراءة خلف الإمام للبخاري، وهي الكتب التي صنّفت الأحاديث على المواضيع والأبواب، إلا أن هذا العمل بحسب مصطلحات ومعايير البحث الموضوعي قد خطا الخطوة الأولى منه فحسب، فماذا عن باقي مراحله، وما المقصود بالدراسة الموضوعية للسنة النبوية؟

الدراسة الموضوعية تعني جمع الأحاديث المتعلِّقة بموضوع محدَّد من مصادرها المتعدِّدة، ثم تحليلها ونقدها سنداً ومتناً وموازنة دلالتها والبحث في تعارضها، ثم بذل الجهد في استنتاج النظرية العامة التي تنتظم تفاصيلها، لتكون صالحةً للتطبيق والعرض، على أنها من أصول المنهج النبوي.

وهذا يعني أنَّ الدِّراسة الموضوعية للسنة تتألف من أربع محطات:
أولاها: اختيار الموضوع، ولا تُقبل فيها إلا مواضيع متصلة بواقع الحياة واحتياجات الناس، وتأتي المجالات التربوية الاجتماعية والاقتصادية المعاشية والسياسية في مقدمتها، ولا يقبل فيها المواضيع التقليدية ولا المواضيع العامة والشاملة كالبحث في السيرة النبوية مطلقاً، والسَّبب وراء ذلك أنَّ البحث الموضوعي ينطلق من إشكالية واقعية محددة ضمن اهتمامات العصر ومواضيعه الساخنة، فيدرس فيها الباحث جميع ما أثير عنها، ويستوعب كل ما قيل فيها، ثم يعرض ما تحصَّل لديه من أفكار على الأحاديث النبوية، وعليه فإن من سيكتب في حق الطفل في التعلم في السُّنة أو الدستور النبوي أو المواطنة في العهد النبوي، سيقرأ جميع الوثائق والتشريعات التي سَنتها الأنظمة الوضعية، ويطلع على النظريات والأفكار التي عالجتها، ويتمكّن من تفاصيلها وجوانبها المضيئة والمظلمة، لتكون هذه الدراسة معيناً مهماً عند عقد الموازنات، ثم يتوجه إلى الأحاديث النبوية مفتشاً جامعاً لكل ما يتصل بموضوعه وفكرته، وهي المرحلة الثانية.

ثانيها: جمع المادة الحديثية من خلال استقراء تام لمصادر السُّنة المعتمدة، والتوسُّع في ذلك مع التأني والصبر، والاعتماد على المطبوع والمخطوط، والاستفادة من البرمجيات الإلكترونية ومواقع الشابكة ومن سائر أدوات البحث العلمي الحديثة، ويلاحظ هنا أنه كُلَّما كان الموضوع دقيقاً محدّداً فسيسهل التوسع فيه عمودياً في مصادر السنة المتنوعة. فالبحث في "حق المرأة في التصويت في السنة والسيرة" أفضل من البحث في حقوق المرأة عموماً "في الصحيحين فحسب"، فنتائج البحث الأول ستكون أكثر عمقاً وتحديداً. وفي هذه المرحلة تبرز قدرات الباحثين في تتبع واستقراء الأحاديث المتعلِّقة بالموضوع، مهما خَفِيت أو دَقَّت درجة اتصالها والصبر على ذلك.

ثالثها: الدراسة التحليلية للأحاديث التي تجمعت لدى الباحث، والبحث في أسانيدها ورجالها من جهة، وفي متونها وألفاظها من جهة ثانية، من حيث الثُّبوتُ والدّلالةُ، ويمحّص الباحث النظر في الأحكام النقدية التي أطلقها رجال الجرح والتعديل والعلل على الأحاديث، ولا بأس أن يطيل الباحث هنا النَّفَس في قضايا الصحة والضعف والمتابعات، والرفع والوقف، وزيادات الثقات والشذوذ والإدراج، وإزالة الإشكال والتعارض الظاهري في دلالاتها، كل هذا ضمن حدود ما يخدم غاية بحثه وهو متون ودلالات الأحاديث، بمعنى أن يلجأ الباحث إلى أدوات المحدثين وما تقتضيه أصول الصناعة الحديثية، بحيث يرجِّح من الأسانيد والألفاظ والدلالات بحسب تلك الأدوات، فيكون واضحاً أمامه "القدر المشترك والمتفق" من الروايات والألفاظ التي رجّحها الباحث، بعد أن دفع التعارض والإشكال، وربط الأحكام بعللها، فتكون النتيجةُ حفظَ الوحدة الموضوعية للحديث النبوي.

رابعها: بناءُ النظرية الشاملة التي ينتظم عقدها جميع المعاني السالفة، واستنتاجُ الموقف النبوي العام الذي تقع تحته جميعُ التَّفاصيل، وفهم الرابط الذي يجمع المفردات التي استقراها الباحث واعتمد عليها في المرحلة الثانية والثالثة، فهي المرحلة الختامية والأهم في العمل الموضوعي، والتي سيربِطُ فيها الباحثُ نتائجَ بحثه الحديثي الموضوعي، بمنطلقه الأول من النظريات الحديثة والإشكاليَّات التي ابتدأ بحثه منها، وسيعرض نتائجه التي خلص إليها، ويوضِّح الإجابة الموضوعية المستمدة من الهدي النبوي عن تلك الإشكاليّات، ويعقد الموازنات فيما بينها، مستفيداً من آراء من سبقه من الفقهاء والمحدثين والشُّراح، فتكتمِلُ بذلك عناصرُ البحث، وتصل الرحلة إلى محطتها النهائية.

ولعلَّ هذه المرحلة هي أمتع المراحل، لأنها مرحلة جني الثمار وحصاد الجهود، فيها يتنقل الباحث من النظر إلى التطبيق، ومن القواعد إلى النتائج، لذا فإن الحذر الشديد والتأني في إطلاق الأحكام مطلوب في هذه المرحلة، بأكثر مما هو مطلوب في سائر المراحل، لأن الخطأ في القواعد والأصول أخطر من الخطأ في التفاصيل والجزئيات، يجب عليه التعمق في مطالعة أدلتهم ومسالك أقوالهم، والعودة إلى أهل العلم واستشارتهم، وقبلها الاتكال على الله والنية السليمة في خدمة الحق والدين وأهله، فكم ترك الأول للآخر!.

كذلك فإن من محاذير العمل الموضوعي، أن ينغمس الباحث في الدرس النبوي، بما قد يفقده السياحة في باقي مصادر التشريع الأصلية والتبعية، ويفقده بوصلة البحث العلمي المتزن، فيؤثر سلباً في نتائج بحثه، ويحمله على التّسرع في قبول ورد أقوال من سلفه، فهذا مما يجب أن يتنبه عليه الباحث في مرحلة اختيار الموضوع، بأن يختار من المواضيع ما يتعلَّق بمواقف النّبي -صلى الله عليه وسلم- التشريعية والبيانية ويتصل بالسنة والسيرة النبوية والسيرة اتصالاً عميقاً، فتتحقق بذلك الفائدة المرجوّة من البحث الموضوعي في السُّنة النبوية. أخيراً لا بأس أن يصوغ الباحث بحثه بأسلوب يجمع بين طرفين، أسلوب يفهمُه المثقفون من غير المختصين من جهة، ويثير التَّفكر والتأمل لدى المختصين من جهة ثانية، وبذلك يحوز الحُسنيات كلها.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/50331/#ixzz2KUPv7NXG

2/03/2013

لحظات مع أبي الجود الأب والمِفن



لحظات مع أبي الجود الأب والمِفن

محمد أنس سرميني


أولاً: أبو الجود الأب:
منزلة الثقافة والعلم في حياته:
الصفة الأهم التي تميز بها أبو الجود منذ نشأته إلى يومه هذا، أنه قدم الثقافة والدراسة والعلم على كل الأمور الأخرى، وجعلها في المنزلة الأولى في سلم أولوياته، وهذا يعني أنه قدمها على الفن والإنشاد.
فأكمل دراسته بتفوّق، وتخرج مهندساً مدنياً من جامعة حلب، كذا فرّغ ما يقارب عشر سنوات للعمل المهني الدؤوب في البناء والهندسة.
وكان أثر هذا في حياتِهِ الفنيَّة، أن حفظ للفن رونقه ومنزلته، فتوجه إليه مكتفياً من الناحية المادية والمالية، ولم يحتج يوماً إلى أن يتكسّب به أو يقصد به غاية مادية، فلم يشب توجهه هذا النزعة المادية التي قد تؤثر بشكلٍ أو بآخر في الإبداع الفني وتجديدِه.
وبرز لثقافته أثراً مهماً آخر، وهو أنه صاهر عائلة مرموقة من حلب، كلَّهم من أفاضل مثقفيها وعلمائها، فأخوالي وخالاتي منهم الطبيب، والمحامي، وحاملي شهادة الدكتوراه في الهندسة وغير ذلك.
وأنتج هذا الزواج وهذا المستوى من الارتباط، أربعة أبناء، هم أنس –كاتب هذه السطور، وهو يحضر رسالتي ماجستير في الشريعة الإسلامية، وأخرى في اللغة العربية- وأمان خريجة آداب قسم لغة انكليزية، متزوجة من طبيب أسنان مرموق، وبراء نطلق عليه بركة البيت، وبيان طالبة جامعية في كلية التربية، قسم الإرشاد النفسي.
وأمَّا عن أثر هذا التَّوجُّه العلمي في الإنتاج الفني عموماً، فيظهر جلياً في أناشيد أبي الجود جميعها، فحث على العلم في قصائد كثيرة، ووجه الشباب إلى حفظ كتاب الله وتلاوته، وتجلى هذا أكثر في المرحلة الثانية من عمره الفني، فكثرت الأعمال التي تخاطب الشباب ليتزيدوا من معين العلم والثقافة.
أذكر على سبيل المثال:


أنا والشوق والأمل ولحن خاشع جذل
أتينا حافظ القرآن نحيه وتحتفل
******
أخي يا حافظ الذكر، ليحفظ قلبك الله
جمعت النور في صدر يحب الله يخشاه
فكنت النور في عصر ظلام الجهل يغشاه
******

وكان لهذا الاهتمام أثر بالغ في حياتنا الأسرية خصوصا، فاستطاع والدي أن يوظِّف فنَّه في التَّربية العلمية المنزلية، وفي تهيئة جو علمي في البيت، وفي تقديم العلم على كلّ الأهداف الأخرى، فكتب قصائد عديدة في التربية، خاطب فيها أولاده أولاً، ثم المجتمع ثانياً، فقال:
حبيبي أنتَ يا ولدي عسى للعلم تغتنم
إذا ما كنت قرآنا ينير الأرض تحترم
وبذلك صار لهذه الأسرة الصغيرة اهتمامان اثنان:
أولاهما: -وهو المقدم- اهتمام علمي ثقافي.
وثانيهما: فني يتذوق الشعر والكلمة واللحن والإيقاع بالفطرة.
وهذا يذكرني أيام كنا أطفالاً كنا أول دائرة تسمع الكلمة واللحن، وأول حلقة تعطي والدي التغذية الراجعة عن مدى تأثير اللحن والكلمة في نفس المستمع ومدى روعته وجماله، والملفت للنظر أنه كان يسمع تلك التعليقات التي تصدر منا بانتباه فيركز على المناحي الإيجابية ويتوقف عندها، وربما راجع أو غيّر ما صنع، بناءً على ما سمع، وكأنه كان يرى في فطرة الطفل ميزاناً صحيحاً ثابتاً في إدراك العناصر الجمالية وتذوقها.
 وبناء على ما سبق، فإن الجانب العلمي ترجّح على الجانب الفني في أسرة، فلم يخرج منها من سيتابع تلك المسيرة الفنية الحافلة، وإنما هي اهتمامات بالفن الملتزم عموماً، لا تصل إلى مرحلة الاختصاص الذي تميّز به أبو الجود.
ثانياً: أبو الجود المِفَن:
أريد أن أتوقف عند لقطات سريعة في حياة أبي الجود الفنية، وعند لمحات مهمة التي تكاملت عناصرها واجتمعت بحيث صحّ أن يطلق عليها اسم المدرسة الفنية.
وأصر هنا على قولي أبي الجود المفن، أو المدرسة الفنية، رغم المعاني الكثيرة التي يحملها لفظ الفن، وذلك لأنه درجت العادة على قسمة الفن إلى الفن العام، والفن الملتزم البديل، وكأن الأصل في الفن هو الفن غير الملتزم. وهذا أراه خطأ في الاصطلاح، صوابه أن الفن الملتزم هو الفن الأصيل، وما الفن الماجن إلا طارئ ودخيل عليه، فتكون القسمة على هذا، الفن الماجن الدخيل، والفن العام الأصيل. ويكفي للدلالة على هذا، أن ألفت النظر إلى مدى ارتباط الفن الملتزم بالدين والأخلاق، والفطرة السليمة، وابتعاده عن المواضيع السطحية، وما يثير الشهوات والغرائز.
نشأة أبي الجود الفنية وارتباطه بالفن الأصيل السائد في حلب:
نشأ أبو الجود في مرحلة زمنية نهض فيها فن الغناء والتلحين في حلب، وظهرت فيها أسماء مهمة لا يزال حضورها بارزاً إلى يومنا هذا، وكان لتوجه والدي إلى جامع العادلية آثاراً مهمة في صقل موهبته الفنية وتشجيعها، فالعادلية آنذاك كان مسرحاً لعرض المواهب الفنية وتنميتها وتنافسها، استفاد منها والدي في أول شبابه. فاستطاع أن صوته العذب أن يفرض وجوده في المسجد آنذاك، وأن يطل على المجتمع شاباً ذا صوت شجي أجمع عليه الكل.
وهذا الجو الفني دفعه أيضاً إلى الكتابة والتلحين، فلحّن رائعته رحماك يا رب العباد، ويا أمة القرآن، وغيرها وهو في سن مبكرة. وهي ألحان استطاعت أن تأخذ قبولاً رائعاً عند أساطين الفن الحلبي إن صحت التسمية، فظل شيخ الملحنين بكري الكردي يردد أحسنت أحسنت وهو يستمع إلى يا أمة القرآن، ولمَّا سمع صبري المدلل –وهو الملحن الكبير في السن والقدر- رحماك يا رب العباد، ومولد الهادي الشكور، لم يقنع إلا عندما أخذهما عن والدي، وأنشدهما في حفلاته. كذا كان الملحن عبد القادر حجار يعلن إعجابه الفني بألحان والدي في كل مناسبة.
ملامح مدرسة أبي الجود الفنية:
 لا يصح إطلاق لقب المدرسة الفنية على فنانٍ ما إلا بعد توافر مرتكزات وخصائص معينة في فنه وعطائه، وأنا لما أدَّعي أن أبا الجود مدرسةٌ فنية، فهذا يعني أنه قد اكتملت في شخصيته الفنية شروط المدرسة الفنية، ولا بأس من الإشارة إليها على وجه السرعة والإيجاز:
الملمح الأول: الصوت الندي، وهو برأيي يأتي في مقدمة ملامح مدرسة أبي الجود، فقد حباه الله بصوت ندي، جمع بين الحدة والليونة، وبين القوة والعاطفة، بما لم يجتمع عند كثيرٍ غيره، زاد على ذلك مساحة صوتية كبيرة جداً واسعة الطبقات، وجهراً وشدةً في الصَّوت مع قدرة في التحكم باهتزازته وقوته بما يناسب المقام والمعنى الذي يريد أن يقدمه، بحيث أهّلته تلك المواهب الربانية ليكون واحداً من زمرة الأصوات المعدودة على نطاق العالم العربي.
الملمح الثاني: اللحن الانسيابي العذب، الذي يأسر قلوب مستمعيه باختلاف طبقاتهم، ومستوى وعيهم الفني. وسبق بيان آراء كبار الملحنين الذين عاينوا موهبته واستمعوا إلى ألحانه. وأذكر هنا أن ألحانه تميزت باتساع المساحة الصوتية، وتنوع المقامات والألحان والإيقاعات، كذا تميزت بتنوع من نوعٍ آخر، فمنها الألحان الصعبة الطربيّة الأصيلة، ومنها الجماهيرية السهلة، ومنها الألحان السريعة والأخرى البطيئة، وكان إلى الأصالة أقرب، أي أنها غطت مساحة فنية واسعة. كذا تميزت ألحانه بالتجديد المستمر، وبعدم التكرار، وأتى كل لحنٍ متمرداً على ما سبقه، فلا يجمع بينها إلا روح الملحن وشخصتيه.
الملمح الثالث: الكلمة الملتزمة، التي ربطت المستمع بعشقه الأول، وارتقت بروحه في سلم الكمالات، لتفي بحاجاتها ومطالبها، واستقت من ينابيع القرآن المواضيع العامة التي أكد عليها وكررها، ونهضت بهمة المستمع ليشارك في نهضة أمته الخلقية والتربوية. فغنى أبو الجود للروح، وللتوحيد، وللقرآن، وللعلم، وللأسرة من خلال الأم والأب والابن، كذا غنى للوطن، ولإيقاظ الأمة، وللحوار مع الغرب، وغير ذلك من المواضيع، التي كان بعضها ولا يزال غائباً عن ذاكرة الفن الملتزم، وتوج ذلك كله، أن اختار لها ثوباً من بحور العروض، عذباً سهلاً ليناً، استعان في نسجه ذلك الثوب، بالبحور القصيرة السريعة، والمجزوءات من البحور الطويلة الواسعة، لكي يسهل استيعابها، ودندنتها، وغنائها، وحفظها.
الملمح الرابع: الجماهيرية والانتشار، فاختصت مدرسة أبي الجود بسرعة الانتشار، وتمكن القبول في قلوب الناس وعقولهم، ولنشأته الفنية أثر كبير في هذا، فهو إذ ينتسب إلى جامع العادلية لسنوات عدة، ثم يصدح مؤذنا ومنشدا في جامع الروضة، ويبدأ حفلاته الخاصة في سن مبكرة، جعل من حلب جوا مهيئاً لاستقباله مجدداً في عالم الفن الملتزم، ولما أن قرر أن يسجل مجموعاته السبعة الأولى، والتي كانت بحد ذاتها فكرة إبداعية لم يقم بها منشد قبله، كان الجمهور في حالة انتظار وتشوق لما سيطرح في تلك المجموعات من أناشيد وقصائد. كذا لنوعية اللحن والكلمة الأثر الآخر في هذا، فخطاب الأناشيد التقليدية يختلف عن خطابه من ناحية المضمون واللحن والجمهور المستمع.
وبذلك تكون تكاملت أهم ملامح المدرسة الفنية المستقلة في شخصية أبي الجود، والتي ظل على تطوير وتحسين مستمر لها.
أثر مدرسة أبي الجود الفنية:
وأما عن أثر هذه المدرسة الفنية، فهو أمر ملموس على النطاق الفني، ونطاق الجمهور المستمع، فقلّما أتى فنان ملتزم بعده، ولم يتأثر به بطريقةٍ ما، سواء بإعادة تسجيل بعض من أناشيده، أو بتمثل خصائص مدرسته سواء في الكلمة أو في اللحن، والأمثلة كثيرة لا أريد التوسع فيها.
وأما على النطاق الشعبي، فأحدث تحوّلا مهماً في أذن المستمع الملتزم، واكتسب فئة مهمة من الجمهور هم الشباب المثقف، لم تعد تطرب إلا إلى كلمته ولحنه وصوته، ولا يزال هذا واضحاً إلى يومنا هذا.
محمد أنس سرميني
17/ 10/ 2009م