2/26/2013

الفن والحياة.. جدلية تجدد مع رحيل "ياسينو"


الفن والحياة.. جدلية تجدد مع رحيل "ياسينو"

محمد أنَس سَرميني


ثمَّة رؤيتان تحكمان علاقة الفن بواقعه، وعلاقة الفنان بمحيطه، وهما بشكل مباشر: الفن مرآة الواقع يعكس آماله وآلامه وأمراضه وصحته، وينقل صورة صادقة صحيحة عنه، ليعيد إلى الأذهان والأسماع أصواتاً قد همّشها المجتمع أو غفل عنها، وأما الرؤية الثانية، فهي لا تكتفي بأن يكون الفن مجرد ناقل صادق، بل أن يضيف على ذلك النقل الوعي والرؤية الناضجة والتي تسهم في تشكل رأي عام مشترك لدى جماهيره، توظف في خدمة أهداف المجتمع وغاياته.

السوريون والعرب عرفوا ياسينو بأمرين تميّز بهم عن سائر جوقته الفنية التي ذاع صيتها في العقود الأخيرة من القرن الماضي، تميّز بأنه كان الوحيد الذي عرف في أدواره باسمه الحقيقي الذي ولد فيه، وهو ياسين بقوش، والثاني أنه حصر أدواره بذلك الشخص الطيب الضعيف، الذي يقع تحت براثن أبو عنتر مفتول العضلات الذي يمثل القوة، وغوار الماكر الذي يمثل الذكاء، وهما الصفتان التي افتقدهما ياسينو، ليعبّر عن فئة معيّنة من المجتمع الشامي القديم. فأكسبه هذا شفافية وصدق في التجسيد والتمثيل، لابد أن انعكست على حياته الذاتية، ليبقى ذلك الشخص الصادق والراضي بالصف الثانوي.

التقيته مرة في دمشق فترة الدراسة، في أغرب مكان قد تلتقي فيه بفنان محبوب، التقيته في "أوتوبيس: عسالي-ابن النفيس"، وقد تزاحم الناس على باب الأوتوبيس، ولكنهم أفسحوا له مجالاً للصعود، احتراماً لسنه ولما كان يحمله من احتياجات منزلية شخصية، لم يدرك الرُّكاب شخصية من صعد إليهم، إلا من خلال نبرة صوته المميزة وهو يناول أحدهم أجرة الركوب، التفتوا جمعياً إليه، وتسابقوا في من سيدفع المبلغ، إلا أن السائق التفت وسلّم وأهَّل ورحّب، ورفض أن يستلم فلسفاً واحداً، واستمر الجدل إلى أن حسمه ياسينو بأيمانه مغلظة على السائق أن يقبل المبلغ، وإلا نزل من الأوتوبيس، فأخذه واستكان. ارتسمت على فمي ابتسامة خفيفة، وأنا أتصور الموقف وكأني في "صح النوم"، وتوجّست خيفة من "مقلب" أو "علقة" ساخنة تنتظر جميع الركاب من غوار أو أبو عنتر.

هكذا كانت حياته وعمله وبساطته، وكذلك كانت نهايته، تعاطف معها الكثيرون من السوريين البسطاء الذين ضاعت دماؤهم هدراً كدمه، ولكن ما هي الرسالة التي حملتها وفاته، وما هي الأبعاد التي تحملها؟، إنها بالعود على ما بدأنا به وهي علاقة الفن بالحياة، ومدى التشابك ما بين طرفي المعادلة هذه، فالفنان الشعبي إنما يبني قاعدته الجماهيرية وشهرته بين الأوساط، على أساسٍ من موهبته وقدرته على الإبهار أو الإضحاك أو التعبير عن دواخل الناس وضمائرهم، وأما عن رسالته التي يقدمها في فنه، فلعلَّه يسهم في صياغتها الكثيرون، بدءا من الكاتب إلى السيناريست إلى المخرج فالمنتج، وانتهاء بالحراك الثقافي والوعي الجماهيري والثقافة الشعبية، ومن الظلم تحميل هؤلاء الأشخاص ما لم يدّعوه لأنفسهم من تعميق الوعي بين الشبان أو ترسيخ القيم أو تعديلها وغير ذلك، وإن كان لهم أثر في ذلك، ولكنه اختصاص القادة والمثقفين ورجال الفكر والسياسة والاقتصاد.

وفي معظم البلدان التي لم تتح فيها حرية التعبير ولم تحترم فيها استقلالية الفنون بشكلها التام، يكون فيها الفن ليس أكثر من أداة ترويجية لمواقف سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، تقع في منظومة تبتلعه وأشباهه. ولهذا فإن المسؤولية أكبر من أن يتحملها الفنان وحده، خصوصاً أنه لم يدع ذلك لنفسه إطلاقاً، ولهذا على جمهور هذا الفنان أو ذاك أن يقدروا أن مواقفه في غير مجال عمله واختصاصه، هي كمواقف سائر المواطنين التي تحتمل الخطأ والصواب، ويطرأ عليها الإذعان للترهيب أو الترغيب، وأن فيهم العصامي والوصولي وغير ذلك. ولهذا فإن معيار تقييم الفنان حقيقة هو موهبته بالدرجة الأولى، ثم تخيُّره للرسائل الفنية التي يريد إيصالها للناس ثانياً، ثم يأتي أخيراً مواقفه الشخصية والتي يتضاءل أثرها الشعبي خصوصاً في مجتمعات قد قررت اليقظة بعد عهود السبات.

Twitter: @anassarmini

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق