2/13/2013

صنمية الأفكار: على هامش خلع رأس المعري


صنمية الأفكار: على هامش خلع رأس المعري 

محمد أنس سرميني

اصطدم رأس تمثال المعري على أرض المعرة محدثاً صدمةً جديدةً في بلاد تكاثرت فيها الهموم والآلام، ومسبباً انقساماً وأخذاً ورداً بين صفوف السوريين على ما هم عليه من واقع صعب، فاختلفت الآراء والتحليلات والتشخيص فيمن قام بكسره، ومن هي الجهة المعنية بذلك، وما الدوافع وراءها، وتعددت الاتهامات، وقابلها تبرئة طرف أمام طرف، وإلى ما سوى ذلك مما هو معتاد ومتوقع في مثل هذه الظروف القاسية، إلى أن قال أحدهم: إن المعري لا يختزل في تمثال مادي أو مجسم صخري، فهو باقٍ في فكره وفلسفته، وفي شعره وحكمته، وفي لزومياته وغفرانه، في إلحاده وإيمانه، وليس بالحجارة والتماثيل والنحت والتصوير. ولقد أصاب في هذا فالأيام تُخَلِّد الأفكار، ولكن القول فتح الآفاق إلى موضوع متصل، ألا وهو اهتمام جميع الأمم والحضارات بتخليد عظمائها وشخصياتها التاريخية المعتبرة على أنها عنصر مهم جداً في صناعة الهوية الحضارية والثقافية للأمم، وتعميق شعور أبنائها بالانتماء إليها وإلى تاريخها. 

وتمايز الأمم في أشكال ذلك التخليد، بين عدة دوائر، منها دائرة الاحترام البالغ الذي يعلي من شأن تلك الشخصيات مع إبقائها تحت مجهر النقد والبحث العلمي، وتقابلها دائرة القداسة التي تجعل من الشخصيات التاريخية فوق الدراسة والنقد والمحاسبة العلمية، ومنها دائرة تخليد الأفكار بجعلها ثقافة شعبوية وتعميمها بين الأجيال الناشئة، وتقابلها دائرة التخليد المادي لها بنصب التماثيل والصور في الميادين والساحات والجامعات وغيرها.

ولم يخل مجتمع من المجتمعات البشرية من حضور هذه الدوائر، ولكن بصور متفاوتة، فعلى سبيل المثال إن التصاوير والمجسَّمات قد وجدت في المجتمعات الإغريقية والرومانية والهندية والصينية، وكذلك في المجتمع العربي قبل الإسلام، ويقال إن عمرو بن لحي هو من استقدمها من الروم في الشام، فكانت النتيجة أن بُني حول الكعبة المشرفة ثلاثمئة صنماً وتمثالاً لرجال صالحين أردوا تخليد ذكراهم وتعميق الانتماء إليهم في أقدس بقعة عند العرب، ثم أثر الجهل والأيام في تحول هذا الاحترام إلى دائرة التقديس، ومن ثم العبادة والإشراك. وكان أثر الإسلام واضحاً في تحويل المجتمع العربي والثقافة العربية المسلمة عن التقديس المادي إلى دائرة الاحترام الفكري والمعنوي والعلمي، وبذلك حفظ الحضارة العربية الإسلامية من هذه المطبّات، وأبقى التعامل مع الأفكار والرؤى والمواقف، على قاعدة الاحترام: "كلٌ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر محمد عليه الصلاة والسلام". 

ولكن يبدو أن المجتمعات تميل عموماً إلى رفع عظمائها إلى ما فوق المستوى البشري الطبيعي، فكان أن تحوَّل هذا الجو المشحون بالحرية الفكرية والتثاقف والتحاور والاحترام إلى نوع من تقديس القائل وتقديس المقولة، والتسليم المطلق بصحتها، لا لصحتها الموضوعية، وإنما لذاتيَّة من أطلقها، وترتيبه في العصور التاريخية، وبذلك دخلت الحضارة العربية الإسلامية في طور تقديس الأفكار، فكان من آثار هذه النقلة أن عاشت أجيال متتابعة على فُتات موائد من سبقهم، وعلى هامش أفكارهم وتصوُّراتهم للكون والحياة، وغاب الاجتهاد والتجديد والإبداع. ومن يفتح كتاب رضا كحالة "معجم المؤلفين" لعلَّه يفاجأ بأن بعض الكتب في العصور الإسلامية الأولى، كانت مداراً لعشرات بل مئات الشروح والاختصارات والحواشي، بما أكسب متونها القداسة التي نتحدث عنها، وبما أثقلها وأخرجها عن سياقها، بل وأخرجها عن غايات ومراد مؤلفيها، وإن نظرة سريعة في رفوف معارض الكتب العربية اليوم، تظهر أن كتب الأوائل هي المتداولة والمطلوبة وهي الأكثر مبيعاً والأكثر طباعة مما سواها من إنتاج علماء ومفكري عصرنا، وهذا يعني بوضوح أننا وإن تخلصنا من عبء القداسة المادية للأشخاص، ولكننا وقعنا أسرى قداسة أفكارهم وآرائهم وآثارهم، وهو خلل لعلَّه يزيد سوءاً عن خلل الأول.

أما في الحالة الغربية فإنهم سلكوا في تمجيد عظماءهم وشخصياتهم التاريخية أسلوباً آخر، واختاروا دائرة التقديس المادِّي الذي يتمثل بالفنون والنحت والتماثيل، وجعلوه فناً قائماً برأسه من المجسمات الصخرية والشمعية، والرسومات على اللوحات والجدران والأسقفة، مما أبقى تلك القامات حاضرةً في عيون ناشئتهم، ورسم لهم القدوات وربطها في مخيلاتهم وتصوراتهم، بما دعم ذلك الشعور بالانتماء الوطني والحضاري. أمَّا من الناحية الفكرية والمعنوية، فبقيت في دائرة الاحترام الخاضعة للبحث والنقد بل والنقض العلمي، دون أن يغُضَّ ذلك من مكانة أحد، وبما حفظ مبدأ تراكمية العلوم وهرميتها، وترك باب البحث والعلم مفتوحاً متاحاً للجميع، ولم يجعلوا من أفكار سلفهم وفلسفاتهم ثقافةً شعبيةً منتشرة بين العامة، بل احتفظوا بها في متاحف التاريخ وفي مراكز الأبحاث المختصة فقط. وهذا ما جعل الحالة العامة والثقافة الرائجة هي ثقافة العصر والمعاصرين، فإنك لن تجد في الغرب مجموعات من الشباب تمضي الأوقات الطويلة في الاجتماع لقراءة كتب تاريخية، قد كُتبت بلغة وبأسلوب لا يمت إلى واقعهم، وتعالج مشكلات لا تتصل بمشكلاتهم، ولا أثر لها في إلا استقدام نزاعات وعصبيات وانقسامات قد دفنت أسبابها، وتناثر غبار معاركها، فما الفائدة من تجميعه واستحضاره، إلا إحياء تلك الجروح!

غاية ما يقال بعد أن كُسر تمثال المعرِّي وحصل ما حصل: إنَّ ما تحتاجه بلادنا العربية الناهضة هو احترام أفكار من سبقهم، وإنزالها منزلتها اللائقة بتجنُّب تقديسها وعزو العصمة لها، وأمَّا التقديس المادي فليس من سماتنا ولا يؤثر في حضارتنا، ولعل الحادثة تكون صحوة فكرٍ تحطم أوثاناً قائمةً في الفكر والوجدان أعمق بكثير من تلك التصاوير المجسمة، ومن الإنصاف القول إن الغرب تفوَّقوا في هذا بأن أخضعوا تاريخهم ورجالاتهم جميعاً للنقد والدرس العلمي، وتخلصوا من عبء القداسة المعنوية لأفكار أسلافهم، رغم انتشار تماثيلهم وصورهم عندهم، وأما الدائرة المثالية فهي التي ابتدأنا بها القول، وهي دائرة الاحترام والاستفادة التي تحمي حرية الفكر والتفكر، وتحفظ قدر ومنزلة أسلافنا دون تقديس مُخل أو تصغير مُسف.
حلب
Twitter: @anassarmini

المقال منشور في إيلاف:
http://www.elaph.com/Web/opinion/2013/2/792873.html?entry=opinion

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق