2/03/2013

لحظات مع أبي الجود الأب والمِفن



لحظات مع أبي الجود الأب والمِفن

محمد أنس سرميني


أولاً: أبو الجود الأب:
منزلة الثقافة والعلم في حياته:
الصفة الأهم التي تميز بها أبو الجود منذ نشأته إلى يومه هذا، أنه قدم الثقافة والدراسة والعلم على كل الأمور الأخرى، وجعلها في المنزلة الأولى في سلم أولوياته، وهذا يعني أنه قدمها على الفن والإنشاد.
فأكمل دراسته بتفوّق، وتخرج مهندساً مدنياً من جامعة حلب، كذا فرّغ ما يقارب عشر سنوات للعمل المهني الدؤوب في البناء والهندسة.
وكان أثر هذا في حياتِهِ الفنيَّة، أن حفظ للفن رونقه ومنزلته، فتوجه إليه مكتفياً من الناحية المادية والمالية، ولم يحتج يوماً إلى أن يتكسّب به أو يقصد به غاية مادية، فلم يشب توجهه هذا النزعة المادية التي قد تؤثر بشكلٍ أو بآخر في الإبداع الفني وتجديدِه.
وبرز لثقافته أثراً مهماً آخر، وهو أنه صاهر عائلة مرموقة من حلب، كلَّهم من أفاضل مثقفيها وعلمائها، فأخوالي وخالاتي منهم الطبيب، والمحامي، وحاملي شهادة الدكتوراه في الهندسة وغير ذلك.
وأنتج هذا الزواج وهذا المستوى من الارتباط، أربعة أبناء، هم أنس –كاتب هذه السطور، وهو يحضر رسالتي ماجستير في الشريعة الإسلامية، وأخرى في اللغة العربية- وأمان خريجة آداب قسم لغة انكليزية، متزوجة من طبيب أسنان مرموق، وبراء نطلق عليه بركة البيت، وبيان طالبة جامعية في كلية التربية، قسم الإرشاد النفسي.
وأمَّا عن أثر هذا التَّوجُّه العلمي في الإنتاج الفني عموماً، فيظهر جلياً في أناشيد أبي الجود جميعها، فحث على العلم في قصائد كثيرة، ووجه الشباب إلى حفظ كتاب الله وتلاوته، وتجلى هذا أكثر في المرحلة الثانية من عمره الفني، فكثرت الأعمال التي تخاطب الشباب ليتزيدوا من معين العلم والثقافة.
أذكر على سبيل المثال:


أنا والشوق والأمل ولحن خاشع جذل
أتينا حافظ القرآن نحيه وتحتفل
******
أخي يا حافظ الذكر، ليحفظ قلبك الله
جمعت النور في صدر يحب الله يخشاه
فكنت النور في عصر ظلام الجهل يغشاه
******

وكان لهذا الاهتمام أثر بالغ في حياتنا الأسرية خصوصا، فاستطاع والدي أن يوظِّف فنَّه في التَّربية العلمية المنزلية، وفي تهيئة جو علمي في البيت، وفي تقديم العلم على كلّ الأهداف الأخرى، فكتب قصائد عديدة في التربية، خاطب فيها أولاده أولاً، ثم المجتمع ثانياً، فقال:
حبيبي أنتَ يا ولدي عسى للعلم تغتنم
إذا ما كنت قرآنا ينير الأرض تحترم
وبذلك صار لهذه الأسرة الصغيرة اهتمامان اثنان:
أولاهما: -وهو المقدم- اهتمام علمي ثقافي.
وثانيهما: فني يتذوق الشعر والكلمة واللحن والإيقاع بالفطرة.
وهذا يذكرني أيام كنا أطفالاً كنا أول دائرة تسمع الكلمة واللحن، وأول حلقة تعطي والدي التغذية الراجعة عن مدى تأثير اللحن والكلمة في نفس المستمع ومدى روعته وجماله، والملفت للنظر أنه كان يسمع تلك التعليقات التي تصدر منا بانتباه فيركز على المناحي الإيجابية ويتوقف عندها، وربما راجع أو غيّر ما صنع، بناءً على ما سمع، وكأنه كان يرى في فطرة الطفل ميزاناً صحيحاً ثابتاً في إدراك العناصر الجمالية وتذوقها.
 وبناء على ما سبق، فإن الجانب العلمي ترجّح على الجانب الفني في أسرة، فلم يخرج منها من سيتابع تلك المسيرة الفنية الحافلة، وإنما هي اهتمامات بالفن الملتزم عموماً، لا تصل إلى مرحلة الاختصاص الذي تميّز به أبو الجود.
ثانياً: أبو الجود المِفَن:
أريد أن أتوقف عند لقطات سريعة في حياة أبي الجود الفنية، وعند لمحات مهمة التي تكاملت عناصرها واجتمعت بحيث صحّ أن يطلق عليها اسم المدرسة الفنية.
وأصر هنا على قولي أبي الجود المفن، أو المدرسة الفنية، رغم المعاني الكثيرة التي يحملها لفظ الفن، وذلك لأنه درجت العادة على قسمة الفن إلى الفن العام، والفن الملتزم البديل، وكأن الأصل في الفن هو الفن غير الملتزم. وهذا أراه خطأ في الاصطلاح، صوابه أن الفن الملتزم هو الفن الأصيل، وما الفن الماجن إلا طارئ ودخيل عليه، فتكون القسمة على هذا، الفن الماجن الدخيل، والفن العام الأصيل. ويكفي للدلالة على هذا، أن ألفت النظر إلى مدى ارتباط الفن الملتزم بالدين والأخلاق، والفطرة السليمة، وابتعاده عن المواضيع السطحية، وما يثير الشهوات والغرائز.
نشأة أبي الجود الفنية وارتباطه بالفن الأصيل السائد في حلب:
نشأ أبو الجود في مرحلة زمنية نهض فيها فن الغناء والتلحين في حلب، وظهرت فيها أسماء مهمة لا يزال حضورها بارزاً إلى يومنا هذا، وكان لتوجه والدي إلى جامع العادلية آثاراً مهمة في صقل موهبته الفنية وتشجيعها، فالعادلية آنذاك كان مسرحاً لعرض المواهب الفنية وتنميتها وتنافسها، استفاد منها والدي في أول شبابه. فاستطاع أن صوته العذب أن يفرض وجوده في المسجد آنذاك، وأن يطل على المجتمع شاباً ذا صوت شجي أجمع عليه الكل.
وهذا الجو الفني دفعه أيضاً إلى الكتابة والتلحين، فلحّن رائعته رحماك يا رب العباد، ويا أمة القرآن، وغيرها وهو في سن مبكرة. وهي ألحان استطاعت أن تأخذ قبولاً رائعاً عند أساطين الفن الحلبي إن صحت التسمية، فظل شيخ الملحنين بكري الكردي يردد أحسنت أحسنت وهو يستمع إلى يا أمة القرآن، ولمَّا سمع صبري المدلل –وهو الملحن الكبير في السن والقدر- رحماك يا رب العباد، ومولد الهادي الشكور، لم يقنع إلا عندما أخذهما عن والدي، وأنشدهما في حفلاته. كذا كان الملحن عبد القادر حجار يعلن إعجابه الفني بألحان والدي في كل مناسبة.
ملامح مدرسة أبي الجود الفنية:
 لا يصح إطلاق لقب المدرسة الفنية على فنانٍ ما إلا بعد توافر مرتكزات وخصائص معينة في فنه وعطائه، وأنا لما أدَّعي أن أبا الجود مدرسةٌ فنية، فهذا يعني أنه قد اكتملت في شخصيته الفنية شروط المدرسة الفنية، ولا بأس من الإشارة إليها على وجه السرعة والإيجاز:
الملمح الأول: الصوت الندي، وهو برأيي يأتي في مقدمة ملامح مدرسة أبي الجود، فقد حباه الله بصوت ندي، جمع بين الحدة والليونة، وبين القوة والعاطفة، بما لم يجتمع عند كثيرٍ غيره، زاد على ذلك مساحة صوتية كبيرة جداً واسعة الطبقات، وجهراً وشدةً في الصَّوت مع قدرة في التحكم باهتزازته وقوته بما يناسب المقام والمعنى الذي يريد أن يقدمه، بحيث أهّلته تلك المواهب الربانية ليكون واحداً من زمرة الأصوات المعدودة على نطاق العالم العربي.
الملمح الثاني: اللحن الانسيابي العذب، الذي يأسر قلوب مستمعيه باختلاف طبقاتهم، ومستوى وعيهم الفني. وسبق بيان آراء كبار الملحنين الذين عاينوا موهبته واستمعوا إلى ألحانه. وأذكر هنا أن ألحانه تميزت باتساع المساحة الصوتية، وتنوع المقامات والألحان والإيقاعات، كذا تميزت بتنوع من نوعٍ آخر، فمنها الألحان الصعبة الطربيّة الأصيلة، ومنها الجماهيرية السهلة، ومنها الألحان السريعة والأخرى البطيئة، وكان إلى الأصالة أقرب، أي أنها غطت مساحة فنية واسعة. كذا تميزت ألحانه بالتجديد المستمر، وبعدم التكرار، وأتى كل لحنٍ متمرداً على ما سبقه، فلا يجمع بينها إلا روح الملحن وشخصتيه.
الملمح الثالث: الكلمة الملتزمة، التي ربطت المستمع بعشقه الأول، وارتقت بروحه في سلم الكمالات، لتفي بحاجاتها ومطالبها، واستقت من ينابيع القرآن المواضيع العامة التي أكد عليها وكررها، ونهضت بهمة المستمع ليشارك في نهضة أمته الخلقية والتربوية. فغنى أبو الجود للروح، وللتوحيد، وللقرآن، وللعلم، وللأسرة من خلال الأم والأب والابن، كذا غنى للوطن، ولإيقاظ الأمة، وللحوار مع الغرب، وغير ذلك من المواضيع، التي كان بعضها ولا يزال غائباً عن ذاكرة الفن الملتزم، وتوج ذلك كله، أن اختار لها ثوباً من بحور العروض، عذباً سهلاً ليناً، استعان في نسجه ذلك الثوب، بالبحور القصيرة السريعة، والمجزوءات من البحور الطويلة الواسعة، لكي يسهل استيعابها، ودندنتها، وغنائها، وحفظها.
الملمح الرابع: الجماهيرية والانتشار، فاختصت مدرسة أبي الجود بسرعة الانتشار، وتمكن القبول في قلوب الناس وعقولهم، ولنشأته الفنية أثر كبير في هذا، فهو إذ ينتسب إلى جامع العادلية لسنوات عدة، ثم يصدح مؤذنا ومنشدا في جامع الروضة، ويبدأ حفلاته الخاصة في سن مبكرة، جعل من حلب جوا مهيئاً لاستقباله مجدداً في عالم الفن الملتزم، ولما أن قرر أن يسجل مجموعاته السبعة الأولى، والتي كانت بحد ذاتها فكرة إبداعية لم يقم بها منشد قبله، كان الجمهور في حالة انتظار وتشوق لما سيطرح في تلك المجموعات من أناشيد وقصائد. كذا لنوعية اللحن والكلمة الأثر الآخر في هذا، فخطاب الأناشيد التقليدية يختلف عن خطابه من ناحية المضمون واللحن والجمهور المستمع.
وبذلك تكون تكاملت أهم ملامح المدرسة الفنية المستقلة في شخصية أبي الجود، والتي ظل على تطوير وتحسين مستمر لها.
أثر مدرسة أبي الجود الفنية:
وأما عن أثر هذه المدرسة الفنية، فهو أمر ملموس على النطاق الفني، ونطاق الجمهور المستمع، فقلّما أتى فنان ملتزم بعده، ولم يتأثر به بطريقةٍ ما، سواء بإعادة تسجيل بعض من أناشيده، أو بتمثل خصائص مدرسته سواء في الكلمة أو في اللحن، والأمثلة كثيرة لا أريد التوسع فيها.
وأما على النطاق الشعبي، فأحدث تحوّلا مهماً في أذن المستمع الملتزم، واكتسب فئة مهمة من الجمهور هم الشباب المثقف، لم تعد تطرب إلا إلى كلمته ولحنه وصوته، ولا يزال هذا واضحاً إلى يومنا هذا.
محمد أنس سرميني
17/ 10/ 2009م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق