11/22/2014

ظاهرة الترادف، بين خصوصية القرآن الكريم، وعموم اللغة

ظاهرة الترادف، بين خصوص القرآن الكريم، وعموم اللغة

يغلب على كثير من البحوث القرآنية اليوم الأخذ بقاعدة أن لا ترادف بين الألفاظ القرآنية، وأن وراء استخدام أي لفظة بل أي حرف سر مكنون يختص الله بمعرفته وفهمه أشخاصاً معينين وعلماء ماهرين يسبرون أغوار المعاني والمباني، فيأتون بالنفيس من التمييزات والفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة.
 
ولكن ما أصل هذه البحوث من حيث اللغة؟ وما هي أقوال أئمة العربية في ظاهرة الترادف؟

قبل عرض الآراء في المسألة لابد من شرح الترادف في اللغة، الترادف هو دلالة كلمتين أو أكثر على معنى واحد، كالليث والأسد والغضنفر، وقد تنازع هذه المسألة في اللغة رأيان شهيران، يقبل أحدهما بالترادف، ويرفض الثاني هذه الظاهرة، وتفصيلهما هو الآتي:

ذهب أصحاب المذهب الأول إلى أن لا ترادف في اللغة، وأن لكل شيء في اللغة اسماً واحداً، وما يتبقى صفات، وأن لكل حركة وحدث فعلاً وحيداً يعبر عنها، لا ينازعه فعل آخر في أداء المعنى ذاته، وإنما قد يؤدي معنىً مقارباً له يزيد ويقل ابتعاداً وقرباً منه. ويمثلون بالسيف الذي هو أداة الحرب المعروفة، وما عداها من أسماء هي صفات خاصة، ويستشهدون بالقصة الشهيرة قصة ابن خالويه القائل بالترادف، وأبي علي الفارسي القائل بعدمه... فالمهند عندهم هو السيف المصنوع في الهند، والبتار هو شديد البتر والقطع، ومثله الحسام شديد الفري والحسم. وكذلك فالفعل جاء يختلف عن أقبل، فالمجيء يأتي من الخلف، والإقبال يكون من الأمام، وأيضاً قعد وجلس، فالقعود يكون إثر القيام، والجلوس عن الاستلقاء، وأمثلته في الجوامع تترى، وممن ينحو هذا النحو من الأئمة: ثعلب وابن فارس وأبو هلال العسكري والثعالبي الذي طبق قوله عملياً في كتابه فقه اللغة وسر العربية.

وهذا باب جميل من اللغة ينازعه أصحاب القول الثاني في المسألة ولعله قول كثير من اللغويين، كسيبويه، والفيروز آبادي، والأصمعي، وآخرون، وهو أنَّ الترادف ممكن في اللغة بل حاصل فيها، في اللغة العربية وفي غيرها، ويستدلون على إمكان ذلك بوقوعه، كتوارد الألفاظ الكثيرة على المعاني الواحدة بحسب اختلاف اللغات والألسن، كما يستدلون عليه بالمشترك في اللغة العربية، وهي توارد اللفظ على المعنيين المختلفين، وهذا مقابل الترادف، ووقوع الأول يؤكد إمكان وقوع الثاني، كما يستدلون بالتاريخ وأثر الزمان في تبدل الدلالات وانحرافها، فما كان صفةً يوماً ما، قد يكون علماً على الشيء الذي وصف أولاً. كما يضربون على ذلك أمثلة كثيرة يستبدلون فيها بألفاظٍ معينة ألفاظاً أخرى فلا يتبدل المعنى ولا تتغير الدلالة عند نفوس السامعين، وقالوا أيضاً: وإنما يأتي الشاعر بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيداً ومبالغة، ولو كان فيهما اختلافٌ لما ذكرهما معاً.

وتزداد المسألة أهمية فيما يخص ألفاظ القرآن الكريم، لأن القول بالترادف فيه لا يستساغ عند نفاة الترادف، بل لعله من وجهة نظرهم يخالف منطقَ القرآن الذي أُحكم من لدن حكيم خبير، ولا شك أن الإله لا شريك له، عندما اختص العربية لتحمل معاني كتابه الكريم، قد اختص كلماتٍ معينة لتحمل هذه المعان دون غيرها من الألفاظ. ويصح هنا التساؤل لم استخدم القرآن كلمات معينة وفضلها على أخرى تحمل دلالات قريبة منها، فمثلاً ما الفرق بين قوله تعالى {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، وقوله {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، فلم استخدم العام في الأولى، والسنة في الثانية، وكذلك "الخشية والخوف"، "والمطر والغيث"، "والريب والشك"، فالترادف وإن صح في العربية فإنه كما قال ابن تيمية: في اللغة قليل، وفي ألفاظ القرآن: إما نادر وإما معدوم.

إن الفروق الدقيقة في القرآن الكريم، وهي إحدى اهتمامات الباحثين والإعلام اليوم، لابد من عند الكلام فيها من التمييز بين مصدري تلك الفروق، فهي إما أن تأتي من جهة النقل والنص عليها من كبار العربية وأهل التفسير، وإما أن تكون نتيجة استقراء يقوم به الدارسون:

·      فما جاء من فروق بين الكلمات بالنص فهو ليس من المترادف بحال من الأحوال، بل يجب التنبيه عليه والتذكير به.
·       وأما ما جاء بالاستقراء فهو من قبيل الاجتهاد البشري الذي يعارضه الاجتهاد، والذي يقبل الصواب والخطأ، ولا يحمل فيه قول أحد الأئمة على أقوال غيره من العلماء، وتكون قوة كل قول بحسب حجته وبرهانه وتبحر قائله.

وإلا فإن التفريق هذا يؤدي إلى عكس ما أريد منهن ويفتح مجالاً لتحميل النصوص ما لا تحتمل.

فعلى سبيل التمثيل لما أريد من كلام لا الحصر أورد المسألة الآتية:

وكلامه يصب فيما ذهب إليه الراغب من حيث النتيجة بالتمييز بين المفردتين، ولكنه اجتهادٌ آخر في التفريق بينهما يؤكد أن القضية اجتهادية تتفاوت فيها أنظار الناظرين.

وهو بذلك يوافق في أصل التمييز بين الكلمات، ولكنه يذهب في اجتهاده إلى الطرف المقابل لما ذهب إليه الأصفهاني والسيوطي، ويرجح عكس ما رجحاه، باجتهادٍ مغايرٍ وبرهان جديد.

والنتيجة هذه، هي الغاية من ذكر المثال السابق، وأمثاله كُثر. فلابد من الحذر عند إطلاق هذه الأحكام، ولابد أن تبنى على استقراء تامٍ للمسائل، دونما تسرُّعٍ وقفز على النتائج، ودون تحميل العربية ما لا تحتمل، مع احترام الخلاف، واحترام أقوال وأدلة المخالِف.

ومن هنا تأتي أهمية البحوث المستجدة في أقسام علوم القرآن والتفسير من كليات الشريعة، وهي البحوث الموضوعية التي تتناول مفردةً معينة من القرآن والكريم، وتجمع سياقاتها، وتفرزها وتحللها تحليلاً لغوياً على مستوى المفردة والجملة والسياق، كما فعل الدكتور عبد الرحمن حللي في رسالته عن "النبوة والرسالة" ورسالته "القرآن والتلاوة والتدبر والترتيل"، ورسائل أخرى تأتي بنتائج هي أقرب إلى الصحة من غيرها التي تقوم على الاستقراء الناقص.

وأخيراً لابد من التنبيه أيضاً إلى أنها أي هذه الدراسات القرآنية تختص بالقرآن الكريم، باعتباره كلاماً مقدساً محفوظ الألفاظ والمباني
ومصون الدلالات والمعاني من جهة، وكلاماً محدداً بين دفتي المصحف من جهة أخرى، الاستقراء التام فيه من أنواع الممكنات، وهذا -في ظني- خلافاً للدراسات اللغوية التي تشمل العربية بأكملها والتي لا يحيط بنصوصها وآثارها ولهجاتها إلا نبي كما قال الشافعي. فما يصح في كتاب الله تعالى، لا يصح نقله إلى اللغة العربية، دونما دليل وبرهان آخر خارجي يناسب عموم اللغة بأكملها، والله تعالى أعلم.

1.     قال الراغب الاصفهاني في مفردات القرآن في التمييز بين "أعطى، وآتى" إن أعطى لا يكون إلا عند موافقة الطرف الآخر أي الآخذ، أما آتى فلا يشترط فيها رضى الفقير أو الطرف الثاني، لذلك هي أكرم وأقوى.
 2.     ووافقه السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، في قاعدة في الألفاظ التي يظن بها الترادف وليست منه، وافقه من حيث أصلُ الفكرة بالتفريق بين أعطى وآتى، وأن آتى أقوى من أعطى، ولكن استدل باجتهادٍ آخر فقال: "إن أعطى أضعف من آتى، لأن أتى لا تقبل المطاوعة (مثل كسرته فانكسر) أما أعطى تقبل المطاعة، يوجد: أعطاني فعطوت.. وهذا ضعف، أما آتى فلا يوجد لها مطاوع."
 3.     ولكن الزبيدي ت ١٢٠٥ه، لم يقتنع بمثل هذا الكلام من السيوطي، فانتقده وقال في تاج العروس في فصل الهمزة مع الواو والياء: "قلت وفي سياقه هذا عند التأمل نظر، والقاعدة التي ذكرها في المطاوعة لا يكاد ينسحب حكمها على كل الافعال بل الذي يظهر خلاف ما قاله –أي السيوطي- فإن الإعطاء أقوى من الإيتاء، ولذا خُص في دفع الصدقات الإيتاء، ليكون ذلك بسهولة من غير تطلُّع إلى ما يدفعه، وتأملْ سائر ما ورد في القرآن تجد معنى ذلك فيه".

والنتيجة هذه، هي الغاية من ذكر المثال السابق، وأمثاله كُثر. فلابد من الحذر عند إطلاق هذه الأحكام، ولابد أن تبنى على استقراء تامٍ للمسائل، دونما تسرُّعٍ وقفز على النتائج، ودون تحميل العربية ما لا تحتمل، مع احترام الخلاف، واحترام أقوال وأدلة المخالِف.

ومن هنا تأتي أهمية البحوث المستجدة في أقسام علوم القرآن والتفسير من كليات الشريعة، وهي البحوث الموضوعية التي تتناول مفردةً معينة من القرآن والكريم، وتجمع سياقاتها، وتفرزها وتحللها تحليلاً لغوياً على مستوى المفردة والجملة والسياق، كما فعل الدكتور عبد الرحمن حللي في رسالته عن "النبوة والرسالة" ورسالته "القرآن والتلاوة والتدبر والترتيل"، ورسائل أخرى تأتي بنتائج هي أقرب إلى الصحة من غيرها التي تقوم على الاستقراء الناقص.

وأخيراً لابد من التنبيه أيضاً إلى أنها أي هذه الدراسات القرآنية تختص بالقرآن الكريم، باعتباره كلاماً مقدساً محفوظ الدلالات والمعاني والألفاظ والمباني من جهة، وكلاماً محدداً بين دفتي المصحف من جهة أخرى، الاستقراء التام فيه من أنواع الممكنات، وهذا -في ظني- خلافاً للدراسات اللغوية التي تشمل العربية بأكملها والتي لا يحيط بنصوصها وآثارها ولهجاتها إلا نبي كما قال الشافعي. فما يصح في كتاب الله تعالى، لا يصح نقله إلى اللغة العربية، دونما دليل وبرهان آخر خارجي يناسب عموم اللغة بأكملها، والله تعالى أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق