11/10/2014

المنطلقات النظرية لابن رشد في نقده تهافت الفلاسفة للغزالي




 
اشتهرت تلك المناظرة الفكرية بين أبي حامد الغزالي وابن رشد، وكان موضوعها الفلسفة، فأما الأول فانتقدها في كتابه تهافت الفلاسفة، وأما الثاني فخصص كتاباً لانتقاد كتاب الغزالي، ووسمه بتهافت التهافت، وانطلق ابن رشد في نقده هذا على ثلاث نقاط منهجية، هي الآتية:
 
أولاً: انطلق من نقطة أن الغزالي ما كان متمكناً من علوم الفلسفة، وأنه لم يخصص لدراستها وقتاً يكفي للتعمق في مراميها ومصطلحاتها وحدودها، إذ نقل عنه أنه إنما اطلع عليها اطلاعاً سريعاً في وقت مسائي خصصه لها على مدار سنتين عند فراغه من البحثي العلوم الشرعية، وأشار الى انه اكتفى في قراءتها بكتب ابن سينا الذي صب عليه معظم انتقاده للفلسفة في كتاب التهافت. وانتقده في أن الفلسفة لا يجوز تؤخذ هكذا.
 

كما بين أن الغزالي الذي أخذ على نفسه مقاضاة الفلاسفة بقواعدهم، قد أخل بما التزم به من جهتين، أنه لم يسبر أغوار مقاصدهم، ولم يغص في أعماق أقوالهم، ولم يميز بين المقدمات والنتائج في مواضع عدة ذكرها في كتابه تهافت التهافت، وأنه من جهة اخرى اعتمد في مناظرته للفلاسفة على الأقيسة المنطقية الآتية من علومهم وفنونهم، ثم شنع عليهم علومهم، وتساءل أين الوفاء في هذا الصنيع؟
 

فأما كلام ابن رشد الاول عن عدم تمكن الغزالي من الفلسفة فيسلم له مأخذه، وإن كان هناك من يختلف معه في النتيجة، وهي مدى تمكن الغزالي منه، ويحق لنا أن نتساءل عن مدى واقعية هذا العلم الذي قد يخفى عن عقلية ساطعة كعقلية الغزالي تدرسه لسنتين متواصلتين.
 

وأما قولته الثانية عن اعتماد الغزالي المنطق وعلوم الفلسفة الأخرى في نقده الفلاسفة، فلا تصح هكذا بإطلاقها، لأن الرجل إنما يؤخذ كلامه كاملاً ومن كتبه كلها، ولا يجتزأ من موقع أو موقعين، والغزالي شهير بتصريحه في المنقذ من الضلال أن علوم الفلاسفة ليست بأجمعها ضلالاً، واستشهد على ذلك بالرياضيات والمنطق والطبيعيات، وإن سماه بغير اسمه، ونبه مراراً أن مراده من حربه على الفلسفة هو أجزاء الإلهيات وما وراء الطبيعيات.

ثانياً: ناقش أن الغزالي قد وقع في التعميم الخاطئ في الرد على الفلاسفة، عندما اعتمد آراء ابن سينا وحده، وقد صرح بذلك الغزالي، الذي عدَّ نقده لابن سينا كافٍ في نقد الفلسفة كلها، وأن هدم ما بناه ابن سينا هو هدم للبناء برمته.


ولم يقبل بذلك ابن رشد من جهتين، أولهما أنَّ ابن سينا في رأيه ليس إلا فيلسوفاً واحداً، ولا يمثل الفلسفة كلها، والفلسفة الحقيقية هي الفلسفة الأرسطية باعتبار أرسطو عند ابن رشد المعلم الأول.
ومن جهة أخرى فأنه أي ابن سينا فيلسوف خرج كثيراً عن مناهج الفلاسفة، وكان ابن رشد يراه متأثراً بالمتكلمين ومخلاً بمناهج الفلاسفة، كما في نظرية الفيض عنده، إذ علّق ابن رشد في تهافت التهافت عليها بقوله: "هي هوس أشبه بتخرصات المتكلمين، وأنه يحق لابي حامد ان يقول عن اقوالهم هذه إنها ظنية"، كما أن ابن رشد قد ألف كتاباً خاصاً في نقدِ آراء ابن سينا في المنطق، فقصته معه طويلة.
 
وهذا في الواقع رد علمي موفق من ابن رشد، لأنه بذلك نبه إلى خطأ منهجيٍّ بحسب أعراف المناطقة وهو التعميم، أو الاستدلال بالخاص على العام، وبه تخلّص من كثير من انتقادات التهافت للفلاسفة، بحملها على أنها أقوال مختصة بابن سينا، لا تمت لأقوال الفلاسفة الآخرين بأي صلة، وأنه هو أصلاً ينتقده فيه، وهو بذلك يثبت أن هدم بناء ابن سينا لا يهدم بناء الفلسفة أجمعها، بل يقيمها على أساس أنها تشترك مع الغزالي في انتقاد آراء ابن سينا في الموضوع.
إلا أنه وقع في الإشكالية ذاتها من وجه آخر، عندما حصر الفلسفة بأرسطو فقط، وأن القول ما يقول أرسطو، ومهما علا شأنه وارتفع قدره في هذا العلم، فإن فلسفته تسمى بفلسفة أرسطو وهي أخص من الفلسفة بعمومها. والحقيقة أن ابن رشد صرح مراراً بانبهاره بأرسطو وفكره، إلى حدٍ قد يصعب تصوره من عقلية كعقلية ابن رشد، وإني لأذكر في موضعٍ ما، رد قولاً لأحد الفلاسفة المسلمين بأن نتيجة قوله تعارض ما يقول به أرسطو إمام صنعة الفلسفة.!
كما أنه في هذا وقع في التعميم السلبي أيضاً، فقال كل ما ذهب إليه ابن سينا ليس من الفلسفة، وهذه قضية كاذبة بالطبع بحسب أعراف المناطقة، وعليه يكون بعض ما انتقده الغزالي على ابن سينا ينطبق على الفلسفة كلها، وبعض ما انتقده عليه هو مختص بابن سينا، وهكذا نكون أنصفنا الرجال والعلم.


ثالثاً: ناقش ابن رشد غاية الغزالي من تصنيف كتابه تهافت الفلاسفة، والتي صرح بها الغزالي في المقدمة، وهي كما قال الانصياع لأمر الأمير في الكتابة في الرد على أهل الفلسفة، بما يجعل الحامل على الكتاب سياسياً زمنياً، وأشار من طرفٍ خفيٍّ الى أن هذا دفعه إلى التحامل على الفلاسفة، والإغضاء عن تلمس الأعذار لهم في ما قد يصدر من أخطاء عنهم، واستخدام لغة تؤلب العوام عليهم، وانتقده في هذا كثيراً على أن هذه المواضيع إنما تطرح في كتب أكاديمية عُليا يستفيد منها من تمرس في العلم، وتدرج في قراءة مصادره وفنونه. وبناءً على ذلك قال في أكثر من موضع: "لا أدري ما دفعه –أي الغزالي- على قوله هذا، ولعله دُفع اليه". وهذا لا يقبل من ابن رشد بحال من الأحوال، إذ خلط فيه بين الشخصي والموضوعي، بما يغيب الحقيقة المجردة عن قارئه، ويجعله ينقلب على الإمام الغزالي، وهذا لا يجوز في أعراف العلماء، خصيصى إذا عرفنا أنه بذاته أيضاً قد صنّف عدداً من مصنفاته بطلب من أمراء زمانه قبيل نكتبه من قبلهم، كما أن فيه غمزاً في النوايا لا يقبل بحالٍ من الأحوال. إلا أنه وفي موضع من كتابه تهافت التهافت، التزم أخلاق العلماء وسموهم، واعتذر للغزالي بأسلوب لطيف المأخذ دقيق المغمز، فقال: "وهذا لا يأتي إلا من شرير أو جاهل، وأبو حامد –الغزالي- مبرأ من تلكما الجهتين"!.

نتيجة الكلام: إن ابن رشد ظهر بأنه كان علمياً موضوعياً في النقطتين الأولى والثانية من انتقاداته، أي في معظم ما سجّله من نقاط ومواقف في كتابه تهافت التهافت، إلا أنه وفي مواضع معينة غلب عليه الطابع الشخصي والانتصار الذاتي للفلاسفة، فوقع فيما انتقد عليه الغزالي من الغمز واللمز واستعمال الألفاظ التي تؤلب العامة وتؤجج عواطفها. وهذا هو الجانب الذي يهمنا في هذه الدراسة المبسطة، وهو جدلية النقد ونقد النقد، والارتقاء بالأفكار وتلاقحها، والذي هو وسيلة البناء المعرفة والتراكمي للآراء والمعارف والثقافات التي تفتقد إليها كثير من الدراسات العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق