5/23/2013

قراءة في بنية الخطاب التكفيري المعاصر


قراءة في بنية الخطاب التكفيري المعاصر

محمد أنس سرميني


  
    تعود ظاهرة التكفير أو الإقصاء من الملة إلى نشأة الجماعة الدينية والاجتماعية، وهي قديمة قدم الأديان والأعراف، لم يخل منها أي مجتمع، ومنها المسلم، إذ ظهرت بوادرها في صدر الإسلام وفي الخلافة الأولى، بتكفير الخليفتين عثمان وعلي، بعد ما يقرب من ربع قرن عن انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، ثم توسع الأمر بتوسع الدولة الإسلامية، وظهرت من الفرق من قصرت الايمان في العهد النبوي على خمسة أفراد، زد على ذلك أو أنقص منه قليلاً!

    ولا مراء في عدَّ مفهوم التكفير نوعاً من أنواع الدفاع السلبي الذي يلجأ إليه من يريد أن يصادر فكر خصمه ويتهرب من مجابهة الحقائق والبراهين بمثلها، فيضيق ذرعاً بها، ولا يجد ملاذاً في مواجهتها سوى التخوين والتكفير، فالخوارج لم يقولوا بكفر علي أو عثمان إلا بعد أن قامت عليهم الحجة بالدليل العقلي والنقلي، وهذا يؤكد أن بنية التفكير التكفيري بُنية مهلهلةٌ ضعيفة من ناحية، وانهزامية من ناحية أخرى.

    ولا يعنينا في هذا المقال العرض التاريخي كثيراً، إلا ما يشرح نشأة مفهوم التكفير، لأن الحقبة المقصودة بالتحليل هنا، إنما هي النصف الثاني من القرن الماضي، والتي عَلَت فيها أصوات التكفيريين، وارتبط سياقها التاريخي بالثلاثية الآتية: القُطبيَّة، فالجماعات الجهادية، ثم القاعدة، فالقطبية نسبة إلى سيد قطب الذي رأى أن العالم الإسلامي يعيش الجهالة الأولى، ودعا إلى عودته إلى دينه من جديد، علماً أنه بذلك لم يصرِّح بكفر الأنظمة أو الأمة، خلافاً لمن نسب ذلك تخرُّصاً إليه، فالجهل والجهالة قد تقترن مع الإيمان والشهادتين، إلا أنَّ كلامه في جاهلية الشعوب المُسلمة أوجد الأساس الفكري للجماعات التكفيرية لكي تنتقل خطوة أبعد بالقول بتفكير الجميع، ثم تأتي المرحلة الثالثة والخطيرة وتستحل دماء الناس وأموالهم جميعاً لكفرهم. ومن جهةٍ أخرى فإنَّ هذا التَّيار إنَّما نشأ في ظل أنظمة استبداديَّة متغوِّلة، قابلت جميع التيارات المعارضة بالإقصاء ومارست بحقها أنوعاً شتى من المضايقات والملاحقات والاضطهاد، فكان أن قابل الفعل رد فعله، وقابل الإقصاء والتخوين إقصاء آخر يكافئه بالقوة ويعاكسه بالاتجاه.

    وباعتبار أنَّ التكفيرَ فلسفة سلبية انهزامية، تقترن بضعفٍ في المنظومة الفكرية، وخشيةٍ من المواجهة العقلانية المتزنة، فإن لجوء بعض التيارات الإسلامية إليه قد يحدث استغراباً في ذهن القارئ، ويوجد تساؤلاً لديه: لم لجأت تلك التيارات إلى تكفير الأمة بقضها وقضيضها، في محاولاتها تسويغ مقاومة هذا الظلم الواقع عليها، رغم أن هذا الأمر مسوَّغ في جميع الأديان والأعراف والقوانين، بل هو واجب في الحقيقة وليس مجرد حق، وأين يكمن الخلل في بنية هذا الخطاب التكفيري؟

    إن الإجابة عن هذا التساؤل تستدعي الإشارة إلى مقاربة الفكر السُّني لقضية الإمامة والحُكم، والتي نُسبت إلى مبدأ طاعة ولي الأمر أعادلاً كان أم ظالماً، وتم السكوت عن الحكم بالغلبة، وتجنّب معارضة كثير من الأخطاء خشية الفتنة والمفاسد الأعظم، على أنَّ درأها مقدمٌ على جلب المصلحة، ومرجعهم في هذا، أحاديث شريفة انتُقيت من غير تدقيق، وانتُزعت من غير سياقها، أشهرها حديث البخاري ومسلم وفيه: “وأن لا ننازع الأمرَ أهله… إلا أن تروا كُفراً بَواحاً”، وحديث مسلم: “تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ”. ومن الواضح أن السُّياق الذي عُرضت فيه، والفهم السطحي الذي أبرزت فيه للعامة، قد فُهم منه وجوب طاعة الأمير وإن ظلم الأمة وسرق خيراتها، ما دام مسلماً ينطق بالشهادتين، وما سوى ذلك من الظلم فإنه من المعاصي التي سيحاسب عليها أمام الله وحده، وليس أمام الأمة، ولا شكَّ أن هذا الفهم قد أوجد تناقضاً فكرياً، وعوراً أخلاقياً وخللاً سلوكياً بيِّناً، لأنَّه اعتُمد مبرراً للطغيان، وأداةً من أدوات القهر الديني والسياسي والاجتماعي.

    والفطرة البشرية تنأى بنفسها عن هذا الموقف، لأنه مخالف للطبيعة ولجذوة الكرامة في الإنسان الحي، وكانت نقطة الفصل بين الجماعات الإسلامية وبين هذا الموروث الفكري، عندما تجرعوا من كأس الظلم والقهر، ولم يكن بين يديهم من أرضية فكرية يلتجؤون إليها لدفع هذا الظلم سوى تلك الأحاديث التي لا تبيح الخروج على مسلم، فكان “المَخرَج” بالنسبة إليهم إعلان كفر الحاكم، ثم تكفير أجهزة الدولة وجميع العاملين فيها، ومن بعد تكفير جميع الشعوب التي رضيت بتلك الحال، وبذلك يكتسبون الشرعية الدينية بحسب الفهم السابق لمقاومة الدولة وأركانها، وبعبارة أخرى، إنهم لمَّا أرادوا أن يتخلصوا من أزمة القهر والاستبداد، وقعوا في كارثة التكفير والتخوين، فكانوا كمن يغرق في الأوحال، كلما ازدادت حركته ازداد غرقه، وتباعد بينه وبين حبل النجاة.

    وهذا يشير من جهة أخرى إلى الأثر الكبير الذي نجم عن سوء تطبيق وفهم لمجموعة قليلة من الأحاديث لم تؤول ولم يُصرف ظاهرها إلى ما يوافق سائر القواعد العامة والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، كوجوب رفع الظلم ووجوب نصرة المظلوم بالوقوف إلى جانبه، “ونصرة الظالم” بالأخذ على يديه، وأنَّ خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قُتل لأنه قال كلمة حق عند سلطان جائر، وأيضاً وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يصحُّ توظيفه اليوم في مؤسسات الإعلام والصحافة ومتابعة الفساد والفاسدين.

    ومن باب الإشارة السريعة أكتفي في هذا المقال بذكر بعضٍ من التوجيهات المناسبة للأحاديث السابقة بما يتفق مع النظرة الكلية للمقاصد الشريعة، عسى أن أتوسع فيها في مقال لاحق، وهي أن مفهوم طاعة ولي الأمر إنما يكافئ مبدأ احترام القانون، واحترام رأي الأغلبية في التشريعات القائمة على المصلحة. وأن قوله “إن جلد ظهرك وأخذ مالك” أي بالحق لا بالباطل، وبالقصاص وإرجاع الحقوق إلى أهلها لا ظلماً وعدواناً. وأما قوله “كفراً بواحاً”، فهي لفظة تفرَّد بها بعض رواة الأحاديث عن سائرهم ممن أسقطها أو رواها بلفظ “المعصية والظلم”، بما يشير الى احتمال روايتها بالمعنى، وبما يرجِّح توجيها الى معنى الظلم الحقوقي البواح والفساد الإداري البيّن، والقاعدة إن الأصلح بين الأمراء مقدم على الأتقى بينهم، لأن تُقاه لنفسه، وصلاحه للناس، كما ذكر عمر بن الخطاب.

    وأخيراً، لابد من محاربة هذه الظاهرة ووأدها بمهدها، وهذا لا يكون إلا بتجفيف منابع هذا الفكر من أساسه، والقادرون على ذلك هم فئتان، الأولى: علماء الدين ممن يتصدرون للفتوى ويسمع العامة لهم، أن يكونوا على قدر المسؤولية، ويتأنوا كثيراً في إطلاق الأحكام، ويتوقفوا طويلاً عند مآلات الأمور وعواقبها، والثانية هم الأمراء الذين بيدهم أمر العباد فليتقوا الله فيهم، ولا يوجدوا البيئة الحاضنة لأمثال هذا التطرف الفكري بالظلم والجور، وبعبارة أخرى لا بد لإغلاق ملف التكفير من إغلاق منافذ الظلم والقهر في المجتمع، يرافقه إعادة قراءة في الموروث الفكري السياسي الديني، وإعادته إلى السياق المناسب، وإلى الصراط المستقيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق