7/13/2013

التَّلطفُ في التَّعبير، بين الأدب والتَّملُّق


التَّلطفُ في التَّعبير، بين الأدب والتَّملُّق

أنس سرميني


التَّلطفُ في التَّعبير أو تخفيفُه، هو مفهوم لغويٌّ اجتماعيٌ متمدِّن، مرتبط في أذهان الكثيرين بكلمة (Euphemism) الإنكليزية، والتي نشأت دلالتها لفرضِ الاحترام في الخطابِ مع من نظرَ إليهم المجتمعُ يوماً نظرةَ الازدراء أو الانتقاص، وكذلك لتجنُّب التعبيرات المعروفَة بالفَظاظَةِ، أو بأنها مما يَجرحُ الحياء. فهو يعكِسُ رهَافةَ حسِّ المتكلِّم. وقد يزيد الأمر عن حده المقبول إلى أن يصلَ إلى مستوى من النِّفاق والتَّملُّق والتَّزلف المذموم. وهو كذلك مرتبطٌ بمفهوم لغويِّ اجتماعي آخر، درسَه علماءُ اللغة والنَّفس تحت عُنوان "المحظور اللغوي (التابو: Taboo)" والذي يعني منع التَّلفظ بكلماتٍ محدّدة في ظروفٍ وأوقاتٍ معيَّنة، ومن ميادينِه ما يتعلق بالاتجاهات السياسية، والاعتقادات الدينية وكذلك الألفاظ الجنسيَّة، وكل ما يقاربُها ممِّا تحْسن الكِناية عنه ويقْبُح التَّصريحُ به.

على أنَّ التلطُّفُ في التَّعبير، بمعنى انتقاءُ الألفاظِ بما يجمِّل المعاني والألفاظ، وبما يحفظُ مشاعرَ المخاطب، له أصل عربي وإسلامي عريق، فهو داخل فيما يسمَّى بالتّعريض والتَّورية والكِناية، أو ما يسمى عند علماء اللغة والبلاغة "بالتفَاؤل". وفي ذلك يقول الجواليقي: "إنَّ العربَ مازالت "تسمي الناهضِين في ابتداء الأسفارِ قافلةً تفاؤلاً بأن يُيسر اللهُ لها القُفُول، وهو شائعٌ في كلام فصحائِهم."[1] ومنه أيضاً إطلاقُ لفظِ السَّليم على الملدُوغ، والبَصير على الأعمى تفاؤلاً لهما، ولفظِ المفازةِ على الصَّحراء المُهلِكة تفاؤلاً بالنَّجاة من أهوالِها.

وأفرد لهذا الموضوع ابنُ القيم فصلاً في كتابه الطرق الحُكميّة، وسماه: فصلٌ من الأجوبة الحصيفة، قال فيه: "ومن محاسِن الفراسَة أنَّ الرشيد رأى في داره حزمة خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذه؟ قال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين. ولم يقل: الخيزران لموافقته اسم أم الرشيد". وقال أيضاً: "ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده وفي يده مِسواك، ما جمع هذا؟ فقال: مَحاسِنك يا أمير المؤمنين!" ولم يقل: "مساويك". ثم أعقب ابن القيم بقوله: "وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ، وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السُّنة، وهو من خاصية العقل والفطنة". ثم ذكر مواقف أخرى لغوية بارعة، عن العباس في قوله عن النبي - صلى الله علية وسلم - لما سئل أهو أكبر أم رسول الله - صلى الله علية وسلم - فقال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله. وقول عمر لما رأى ناراً موقدة في ليل: "يا أهل الضوء" وكره أن يقول يا أهل النار. ثم أصَّل لهذا الباب بأنه مستمدٌ من قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الإسراء: 53]. [2]

وحضارةُ الشُّعوب تظهر جليةً في مستوى لغتِهم وتخاطُبِهم، والتَّلطف يعكس جانباً منها، إلا أنَّ خطورتَه تكمُن فيما إذا استُخدم تلطيف اللغة في محاربة أخلاق الأمة وأفكارها، بواسطة مصطلحاتٍ مخفَّفة تعبّرُ عن معانٍ سيئة، كانت تثير اشمئزازاً اجتماعياً عند نطقها، فعلى المستوى الأخلاقي مثلاً تشترك أكثر من لغة في نسبة الفاحشة بين الرجال إلى قوم لوط، فيُقال عنها لواطة (Sodomy)، وهي ذات دلالة قاسية في أذن المروجين لهذه الفعلة الشنعاء، فكان من أثر ذلك أن خضعت للتخفيف مرتين، أولاً عندما تحولت تلك اللفظة إلى وصفهم بمجرد الشذوذ أو المثليّة (Homosexuality)، وكأنَّ الأمر ليس إلا استثناء معتاداً عن الفطرة السليمة، ثم خضعت لتحويلٍ آخر اكتسب معنى ايجابياً فأطلق على أنفسهم اسم المَرِح السعيد (Gay)، ثم انتشرت تلك التسمية لتعبِّر عنهم بلفظٍ مخفَّف محبَّب، وصار التلفُّظ بالألفاظ الأولى من المعايب اللغوية والاجتماعية، فبدأت حربُ الأخلاقِ بالألفَاظ.

ومنه أيضاً ما يشاع في الإعلام من مصطلحاتٍ جديدة تعبِّر عن أقسى المعاني بألفاظ مخفَّفة، أرادوا بها تجنُّب الدلالات المفعمةِ بالوحشيّة المرتبطَةِ بالمصطلحات القديمة، فاستعملوا التطهير العرقي (Ethnic cleansing) بدلاً من: الإبادةِ الشَّاملة لشعبٍ ما (Genocide). وتركوا مصطلح تعمُّد قتلِ الأبرياء في الحروب (Killing of innocents)، ليُقال: (Collate- صلى الله علية وسلم -al damage) بمعنى أنه إيذاءٌ غير مقصود. والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، توضِّح كيف وُظِّف التخفيف في التعبير ليخدم سياسات ضارة لا تمت لأخلاقنا بصلة إن لم تعارضها وتجافيها، وهذا بخلاف التفاؤل اللغوي العربي الذي أمتعنا به ابن القيم وغيره، مما يجمِّل اللغة من غير نفاق ولا دس، وعليه فإن المطلوب اليوم هو تخفيف ما يستحق التخفيف من عبارات تتضمن الانتقاص والاحتقار بحق إنسان أو طائفة أو عرق، دون تلك الأخرى التي تريد تلبيس الخير بالشر، وتضييع الحدود بينهما، ولعل هذا هو المراد من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله علية وسلم - يقول : "إن أول ما يكفأ"، قال زيد: يعني الإسلام، "كما يكفأ الإناء" يعني الخمر، قيل: فكيف يا رسول الله! وقد بين الله فيها ما بين؟ قال: "يسمونها بغير اسمها، فيستحلونها". رواه الدارمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق